وظائف خالية

خمس عزلات بيروتية.. خمسة أفلام قصيرة آخر صورة .. عندما تضرب الذاكرة صانعها
Total online: 1
Guests: 1
Users: 0
من العدس المصري الأصفر إلى البيض الأمريكي أبو عيون.. رحلة النص القصير من مصر لأمريكا







 

  ثلاثة أشياء تجعلني أكتب عن تلك العزلات/الفيديوهات/الأفلام البيروتية الخمس:
  أولاً، هي من التجارب المبكرة في التعايش السينمائي مع العزلة الكورونية المفروضة على العالم.

  ثانياً، صاغها خمس صناع أفلام محترفين، استكشفوا عوالمهم الخاصة بعيداً عن صخب الحياة اليومية.. عجقة بيروت المعتادة، وزخم العمل اليومي؛ فأحرزوا قدراً من الكشف الفني للوحدة، العزلة.. معناها ومغزاها ونتائجها.. بعضهم شكا وبكى، وبعضهم تحمس وانبسط؛ فكان لتأمل تجاربهم من قبلنا (من زاوية الجمهور) متعته وجماله.

  ثالثا، أخذت هذه التجارب شكل الأفلام القصيرة في طريق بين التسجيل (التوثيق) والروح الدرامية.

  الأفلام القصيرة -من وجهة نظري- ينتظرها عالم رحب من الظهور على الساحة في المستقبل القريب، ليس فقط كشكل من أشكال التجريب، أفلام الطلبة والهواة، لكن أيضاً بصورة تجارية.

  من منا لم يعد يدرك أن مشاهدة الأفلام لن تعود كما كانت بعد انزياح شبح كورونا؟!
  إننا نواجه انقلاباً أشبه بما عايشه جيلنا عندما انقرضت دور السينما الضخمة ذات المقاعد الضيقة (غير المريحة غالباً) والتي تعودنا أن تضم في العرض الواحد آلافاً مؤلفة متآلفة وغير متآلفة من الجمهور.

  كان الجمهور والموزعون وصناع الأفلام -حينها- متقبلين فكرة العروض الطويلة جداً.. العرض يمتد عدة ساعات، والفيلم ذو التسعين دقيقة (ساعة ونصف) يعتبر -نسبياً- قصيراً، تصل الأفلام يومَها إلى ساعتين وثلاث ساعات، وبعضها يتعدى ذلك بكثير.

  السينمات في العادة كانت تقدم أكثر من فيلم في العرض الواحد، على الأقل فيلم عربي/مصري وآخر أجنبي (غالباً أمريكي أو هندي أو تركي)، بعض الدور أيضاً كانت تقدم عرضاً مستمراً.. الأفلام لا تتوقف قد تتكرر لكن أحداً لن يطلب من أي مشاهد المغادرة؛ فهو يجلس، يتفرج، ينام ويصحو، يمر به بائع التسالي (لب.. سوداني.. بيبسي.. كوكاكولا.. سفن أب) يأكل ويشرب ويقزقز ويدخن عدة علب سجائر وأشياء أخرى لاداع لذكرها، ثم عندما يصل به الإنهاك مداه.. يرحل.

  كل ذلك اندثر مع ظهور قاعات السينما الصغيرة (السينمات متعددة الشاشات) حيث كل قاعة تعرض فيلما مختلفاً.. كانت تلك ثورة في عالم المشاهدة تأثر بها الجمهور والموزعون ومنتجو الأفلام أيضاً حيث أصبحت أفلام التسعين دقيقة قياسية، إذا قصر الفيلم عن ذلك لن يكون مناسباً للجمهور ولا للمعلنين ولا حتى لمؤجري الكافيتريات الذين يعتمدون في مبيعاتهم على فترة الاستراحة، وإذا زاد طول الفيلم عن ذلك عُدَّ ملحمة تحتاج معاملة خاصة وتسويقاً بشكل متفرد.

  بعد كورونا سيجد الموزعون ومنتجو الأفلام وصناعها أنفسهم أمام عالم جديد منقسم بشدة بين منصات التوزيع عبر الإنترنت التي ستتسيد الساحة إن لم نعتبرها صاحبة السيادة الآن فعلياً، وفي إطار موازٍ سيكون على دور العرض التواؤم مع الواقع الجديد حيث تلاصق المشاهدين في مقاعد متجاورة (حتى لو كانت عريضة مريحة) لن يعود منطقياً؛ سيضطرون لفرض مسافات أكبر بين المشاهد والذي يليه مما يعني أن قاعة السينما في أوج امتلائها لن تسع أكثر من ربع عدد المشاهدين.

  بالنسبة للموزعين والمنتجين ومن ثم صناع الأفلام سيكون عليهم الاهتمام أكثر بتقليل زمن العرض إلى النصف -على الأقل- لتحجيم خسارتهم المتوقعة، ومن ثم سيصبح للفيلم القصير جاذبية في المستقبل القريب حيث هو مناسب لجمهور دور السينما ومعظمها حالياً موجود في الأسواق والمولات، يعني مشاهدة الفيلم فقرة في خروجة التسوق يناسبها تماماً ألا تتخطى الخمس وأربعين أو الخمسين دقيقة، وهي مدة مناسبة أيضاً لمنصات المشاهدة على الإنترنت.





___________________________
عزلات السينمائيين الخمس:
زينة صفير .. كارول منصور .. لميا جريج .. غسان سلهب .. محمود حجيج

___________________________








 

إحساس غريب .. زينة صفير

 


  يبدأ الفيلم بعنوان مبهم وعبارة غامضة، مع رنة رسالة صوتية عبر أحد تطبيقات الهاتف نسمع صوتاً أنثوياً ربما صوت صانعة الفيلم نفسها تتساءل:
- كيف بدي أصورها؟!

  ضمير الغائبة، ال(ها) الواردة في التساؤل غير عائدة على شيء لأن لا شيء قبلها؛ فهي أول الفيلم. ربما لكوننا نعرف الآن ظروف صناعة الفيلم نستطيع تخمين المقصود.. الضمير يعود على العزلة.. العزلة التي صنع فيها ومن أجلها الفيلم بدعوة من منصة درج الإلكترونية، عزلة الفرار من وباء غامض، غامض مثل العنوان ومجهل مثل العبارة التي لن يربطها من يشاهد الفيلم بعد سنوات عديدة بغير معناها المجرد.

  العنوان باللغة العربية عنوان بسيط: (إحساس غريب)، يرافقه عنوان مواز باللغة الإنجليزية ليس ترجمة مباشرة للعنوان العربي، هو اصطلاح عامي إنجليزي ترجمته الحرفية: "بين الشيطان، والبحر عميق الزرقة". أما معناه فيشير إلى وجود مشكلة، معضلة عويصة. أشبه بمقولتنا: "البحر أمامكم، والعدو خلفكم"، أو كما نقول: "بين نارين".

  العبارة الإنجليزية العامية استغلت فنياً كعنوان لأغان وأعمال موسيقية وعروض مسرحية وروايات وأفلام. أحد أشهر الأغاني الغربية التي تحمل هذا العنوان، والتي ظهرت منذ مطلع القرن الماضي ولازالت الفرق الغنائية تقدمها أو تعيد إنتاجها حتى الآن تقول:
-"أنا لا أريدك
  لكنني أكره أن أفقدك
فأنت تضعني بين الشيطان، والبحر عميق الزرقة".

  هل في ذلك إشارة ما؟ ربما!

  بعد ذلك يستمر صوت التعليق في إتاحة المزيد من الغموض بالحديث عن "ريبورتاج" ما دون أي تفاصيل عن هذا الريبورتاج غير أنه المحفز للذاكرة: "الريبورتاج هو اللي ذكرني.. أني قاعدة.. ما اني ناسية.. بس كيف بدي أصورها؟!".

  هنا يبدأ توالي الصور الحالية.. الصوت الحي.. صوت رسالة من شخص ما ينبه صانعة الفيلم أن عليها -من قلب البيت- أن تخلق شيئاً، ثم يبدأ تداعي الذاكرة من خلال لقطات ثابتة لتفاصيل البيت يصاحبه حكي زينة صفير عن الحياة التي دبت بتلك الأمكنة يوما ما.

  ينبثق صوت الذاكرة المصورة.. تسجيلات المخرجة القديمة؛ فقد سبق لها صنع أحد أهم أعمالها الفيلمية عن أبيها (فيلم بيروت ع الموس) حيث ظلت لخمس سنوات أو ربما أكثر تصور عائلتها ومنزلهم هذا نفسه عندما كانت الحياة تدب في جنباته.

  مقارنة بين صور الماضي وواقعها.. حتى صورة المخرجة المنعكسة مرة في الماضي على المرآة، ومرة في الحاضر على طرف شاشة التليفزيون، وفي الحالتين تمارس عملها بدأب، تصور، في الماضي في يدها كاميرا هانديكام تبدو الآن عتيقة، والآن تستخدم هاتفاً ذكياً موضوعاً على حامل ثلاثي.. تراقب عمله بجمود.

  يتوازى استعراض الأماكن وماضيها مع ثلاثة مستويات من الصوت: صوت الحياة الحية، وصوت الماضي المسجل، ثم صوت تعليق مصاحب مرة من صانعة الفيلم، ومن جهة أخرى تعليق صوت ذكوري آخر يقدم النصح بشأن صناعة الفيلم في العزلة، وبشأن حياة العزلة نفسها، يظل هذا الصوت غامضاً لا نعرف من هو، هل هو أحد الأقارب مثلا، أو أستاذ.. أب روحي.. صديق.. غير ذلك، لا نعرف، لكننا ندرك أنه ونس يتخطى وحشة الجدران لأنه قادم من الخارج عبر رسائل الهاتف يكسر ملل العزلة ويحول المونولوج الطويل عبر الفيلم إلى حوار حي، على الأقل يحول كآبة الحزن نوعاً من الشجن البديع.

  يأخذنا الفيلم من الحديث عن المكان إلى الحديث عن أهل المكان: ألفتهم، تواصلهم، دفء المشاعر بينهم، ثم أحزانهم.. مرضهم، ليصل بنا أخيراً إلى الريبورتاج الذي كان الحديث عنه غامضاً أول الفيلم.. الريبورتاج عن هؤلاء المرضى الذين زادت أمراضهم المزمنة وقع كابوس كورونا على حياتهم، والذين كشفت كورونا أزمتهم مع "الضمان والطبابة بلبنان".
  بعدما زالت صور الماضي من على الشاشة وبقيت صورة الواقع.. زينة صفير صانعة الفيلم نفسها، وحدها على الشاشة تكتشف فجأة قدرتها على ائتلاف المكان بما آل إليه، وهو "بعده فاضي".










 

كوفيديو.. كارول منصور

 





  مع بداية الفيلم يبدأ الترافق بين السهل والممتنع.. بحنكة سينمائية، تبدأ الكاميرا وكأنها بعشوائية تسجل حيوات البيروتيين في ظل الحجر الإجباري، العزل، الغلق.. تصادف صانعة الفيلم (أو هكذا تبدو) مجموعة من جاراتها تتجمعن باحتياط ربما في حديقة، أو ممشى في كمبوند سكني، يلعبن لعبة تخمين الكلمات لتمضية الوقت.. إلى هنا تبدو المسألة بسيطة وغير مفتعلة حتى يبدأ الحوار فنكتشف أن اللعبة عن الأحلام.. أحلام الجارات عما سيفعلنه بعد كورونا.

  تأخذنا الإجابة إلى صلب القصة، وتكشف لنا أن المسألة ليست مجرد توثيق لحالة العزلة، لكنها سبر لهذه الصور الجامدة للشوارع الفارغة والأنشطة المحدودة التي مازالت مسموحاً بها لتأمين احتياجات المنعزلين، ولقناعة صوت صانعة الفيلم الذي يأتينا من خلف الكاميرا أن الطمأنينة تأتي من كون الآخرين يمرون بنفس الظروف؛ يخرج الفيلم بنا من ضيق الحجر ومن عزلة المونولوج (الصوت الواحد) عن طريق حيلة عصرية: تسجيلات صوت عن طريق تطبيقات الاتصال.. أصوات عديدة تتخطى حدود الكادر بأفكار ومخاوف عديدة.. قلق حول الأمور العامة والخاصة.. هل ستعود المدينة كما كانت؟

لا ننسى أن الوضع السابق كان مشتعلاً في بيروت (وعاد كذلك بعد إنتاج الفيلم بقليل) سياسياً واقتصادياً.

  هل سيستغل الساسة أيام العزلة لتحقيق أهدافهم، وتوفيق أوضاعهم، وفرض واقع جديد بحساباتهم؟

  ثم، هل سيتمكن المواطن العادي من التكيف بعد الخروج من العزلة؟

  تساؤولات عديدة وقلق مفرط مع إلحاحه إلا أن الصورة لا تكتمل إلا بجانبٍ آخر.. جانبٌ مضيء.. العزلة رغم قسوتها أفادت الجميع.. ساعدتهم في اكتشاف أنفسهم والتحقق من طموحاتهم، ومعرفة المزيد حتى عن أهلهم.. جعلتهم منبهرين بالممكن فضلاً عن المحتمل، اتضح لهم أن ما كان يضغطهم من عادات وسلوك، وحتى ملابس يمكن التخلي عنه.. يمكن للحياة أن تستأنف داخل بيجامة وعلى أريكة مريحة في البيت حيث تنجز المشاريع المؤجلة دون عوائق.









 

ليال ونهارات في زمن الوباء.. لميا جريج




 




 


  إذا كانت الحدود بين الفنون نفسها تماهت؛ فلا نستغرب أبداً التماهي بين الأشكال الفنية والأعمال شبه الفنية.. السينما والفيديو، هل ترك التحول الرقمي فاصلاً بينهما؟

حتى المسافات بين الصور المتحركة والثابتة أصبحت وكأنها لم تكن.

  فيلم "ليال ونهارات في زمن الوباء" صنعته فنانة اعتادت خوض مجالات متنوعة من الفنون والتنقل بينها كما لو كانت مظلة واحدة تشمل الجميع.. ربما لا نستطيع بثقة وثبات وصف العمل بأنه فيلم.. ربما كان أقرب لتقرير تليفزيوني، أو دعونا نتساءل إن كان يمكن وصفه بأنه (فيلم مقال) كما تصنف الفنانة بعض أعمالها الأخرى، رغم أن مفهوم الفيلم المقال ليس واضحاً تماماً في عالم الإنتاج السينمائي العربي.

  صانعة الفيلم نفسها وصفت فيلمها بأنه يوميات فيديو تأكيداً على التداخل بين عوالم التعبير.

  التعليق الصوتي المفرط هو أكثر عنصر أكد شكل التقرير التليفزيوني.. بصراحة كون التعليق بالفرنسية زاد الطين بلة، ليس لعيب في الفرنسية ولا لشائبة في التعليق المحترف.. لا (لا سمح الله)، لكن في الواقع هي من اللغات المهجورة بالنسبة لي، بالكاد أقصى طموحي فيها فك الخط.. لذلك شعرت بالنفور ربما أو الانفصال عن جو المشاهدة، وتساءلت: لماذا تضع عربية تعليقاً بالفرنسية على عمل في الغالب سيكون أكثر مشاهديه عرباً؟!

  لا إجابة، لكن لا بأس؛ لجأت لإنجاز مشاهدة إبداعية.. تخلصت تماماً من الصوت (كتمته) بعدما تأكدت أنه باستثناء مقطع أرشيفي في البداية لا يوجد غير صوت التعليق والقليل من الأصوات الحية في الخلفية.

  شاهدت الفيلم.. اللقطات.. الفيديوهات دون صوت فوجدتها إلى حد كبير ممتعة، وإن كان للتصوير بكاميرا غير احترافية، وبأسلوب أقرب إلى أعمال الهواة دوره في تحجيم هذه المتعة.. المشهد لقطة، واللقطة طويلة جداً.

  بالطبع لن تستطيع عين المشاهد متابعة التفاصيل.. إذا كنت تقف في شرفة منزلك.. ليست تلك حجة لترك الكاميرا تصور لقطة واحدة بزاوية واسعة، يمكنك في هذه الحالة باستخدام بعض العدسات المقربة المتاحة حتى لكاميرات الهواتف الذكية أن تقدم تنوعاً لا غنى عنه لعين المشاهد.

  يبدو أن لميا جريج لاحظت ذلك فخرجت قدر إمكانها إلى محاولة التنوع البصري مرة بتسجيل تفاصيل حياتها في العزلة: زراعة نباتاتها المنزلية، تسوية بعض الطعام، ومرة أخرى بمحاولة الخروج من المنزل ولو كان خروجاً محدوداً في المحيط تسجل من خلاله القليل عن حيوات أخرى في أسر العزل الكوروني.

  مشاهدة ممتعة لكنها جريمة في حق الفيلم، كيف يمكن أن ألغي عنصراً مهماً من عناصر التعبير الفيلمي وهو الصوت؟

  إنني بذلك أعيد إنتاج الفيلم، ومهما كان ما أحطت به فلن يكون أبداً كل الرسالة التي أرادها صانعه أو صانعته؛ لذلك قررت إعاد المشاهدة، لكن هذه المرة بقراءة الترجمة. لا بأس، ولو كانت ترجمة إلكترونية فهي "أحسن من مفيش".

  التعليق الذي يحمله الفيلم كان شيقاً أيضاً، وإن كنت لازلت أراه منفصلاً.. موازياً للصورة غير متضافر معها.. ليس حتماً أن يتفق الصوت مع الصورة، لكن كفيلم متكامل يجب أن يتوافقا معاً.

  تستطيع سماع الصوت (التعليق) وحده بأريحية كبيرة كما استطعت قبلاً مشاهدة الفيديو (الصورة) منعزلة. لا أظن تلك علامة إيجابية، لكن ربما لأن صانعة العمل أرادت أن تفتح مجالاً للتعبير عن نفسها المنعزلة في المنزل، ولما كانت الصورة لا تسعفها حاولت حشد كل ما تريد إيصاله للجمهور من خلال التعليق الذي أثقله بشكل ملحوظ.. مخاوف من الواقع، وقلق بشأن المستقبل.. السياسة.. غضب الجماهير.. المرض، وحتى القدرة على التواصل مرة أخرى مع الآخرين: "متى نستطيع أن نحضن أبوينا، صديقاً، أو حبيباً مرة أخرى؟!".









في النافذة الخلفية.. مخرج في انتظار صورة









  الاسم -طبعاً- ليس جديداً، هناك أفلام حملت نفس الاسم أو ربما ذات المفهوم (النافذة الخلفية) حتى تكاد تعتبر نوعاً أو شكلاً فنياً.. تياراً قائماً بذاته حيث ينعزل المشاهد مع بطل الفيلم لسبب أو آخر في مكان مغلق، ولا يكون أمامه إلا التسلل بعينه إلى الخارج عبر نافذة خلفية، المنفذ المتاح، ليكتشف الحياة من خلالها؛ ليؤنس وحدته ويوسع ضيق حياته، انقباض روحه وعجز بدنه، ليضفي على عزلته أبعاداً جديدة ثرية تتخطى المكان، وربما تتجاوز الزمان.. لتصنع فيلماً.

  غسان سلهب حاول خوض اللعبة، تجربة النفاذ إلى عالم مغاير عبر نافذة غرفته، لكنه وجد أفقاً تحجبه البنايات ولا يبدد وحشته إلا صوت زخات المطر تطقطق.. تطرقع.. تدوي على حاجز النافذة، ويأتي من بعيد جداً عندما يهدأ المطر صوت يبدو كتلاوة قرآنية.

  ننتظر كمشاهدين أن نرى: ما الجديد؟ ما الذي سيصنع قصة (رغم أن غسان سلهب يقول عن نفسه أنه -في أفلامه- ليس راوي حكايات)؟!

  يبدو أن صانع الفيلم أيضاً، المخرج الذي صنع أفلاماً طويلة؛ كان معنا في الانتظار.

  لقطة طويلة.. قبل أن يصل دقيقتين بقليل بدأ يحس بالضجر فوضع على الشاشة نصاً يقول: "ليست هذه الصورة"، ثم استمر على أمل أن المشهد الطويل سيصل به إلى ما لا يمكن توقعه أو ربما إلى ما توقعه لكنه لا يستطيع اصطياده.. المثل الشعبي يقول: "طول العمر يبلِّغ المراد".

  انتظر وقبل أن يكمل الدقائق الثلاث وصل يأسه مداه.. معه حق.. هناك أفلام كاملة لا تتخطى مدتها الخمس وأربعين ثانية أو دقيقة على الأكثر.

  قرر أن يغير مساره، وضع على الشاشة عبارة تقول: "ليست هذه الصورة أيضاً"، وخرج ليكمل انتظاره لكن في الشارع هذه المرة. الكاميرا مازالت منتظرة، ترصد ما يواجهها بدأب: لا أحد في الشوارع.. المطر.. السكون يسيطر على الوضع.

  قرر صانع الفيلم الخروج إلى عالم أرحب، أقوال مقتبسة من صامويل بيكيت (حسب ما ذكر في نهاية العمل)، بعضها يتحدث عن "حلم بلا نهاية ولا هدنة.. إلى لا شيء".

  يحل الليل؛ فتعود الكاميرا إلى نافذة أخرى.. نفس المطر، وذات الانتظار الذي يبدو أنه بلا نهاية.










ماذا بعد الأورجي.. رسالة محمود حجيج الغامضة مغلفة بالعادية

 









 

  البعض عند المشاهدة اعتبره فيلماً واضحاً مباشراً بفجاجة لا تليق بفن.

  لو كان معروضاً على شاشة عادية في قاعة عرض.. في مهرجان أو في عرض جماهيري (لا يتوفر عادة للأفلام القصيرة ، خاصة القصيرة جداً) أمام جماهير ستراه مرة واحدة سريعة لن تمكنها من التدقيق؛ كنا سنتفق مع هذا الرأي، لكن ساحة العرض تؤثر بشكل ملحوظ في عملية التلقي، والعرض هنا على يوتيوب أو على مواقع الإنترنت حيث إمكانية التشغيل والإيقاف والعودة إلى البدء وما إلى ذلك تضفي أبعاداً أخرى وتتيح للمشاهد اكتشاف ما لا يمكن -في العادة- لفيلم سينمائي قوله.

  البداية مع الاسم: "ماذا بعد الأورجي؟".. علامة الاستفهام تعني السؤال، لكن كيف نفهم المقصود بالأورجي هنا لنتمكن من الإجابة؟

  لا أعرف إن كان هذا المصطلح مستخدماً في لبنان (بلد صانع العمل) وهل له معنى عامي خاص، لكنني أستطيع ترجيح توجهه إلى جمهور ذي ثقافة غربية؛ نظراً لثقافة حجيج ودراسته في أكاديميات أجنبية.. أيضاً من خلال الفيلم نفسه، استمر في استخدام عناوين واقتباسات بالإنجليزية دون حتى التفكير في ترجمتها للجمهور المحلي والعربي، لكن ما هو الأورجي؟

  الكلمة -في أرقى استخداماتها- تعني العربدة، وتشير إلى الإفراط.. طبعاً يتسع المعنى ويتوغل إلى مناطق مثيرة عندما يتعلق الأمر بحفلات وطقوس وعادات وممارسات المجون البشري، لكن أعتقد أن ترجمتها إلى الإفراط يفي بالغرض.


  





 

  ذلك هو الفيلم الوحيد من أفلام العزلة الكورونية الذي يوظف ممثلة محترفة (الفنانة اللبنانية مروة خليل)، وهي غالباً طبعاً تشارك متطوعة. الفيلم إلى حد كبير اعتمد على أدائها أمام الشاشة. الفيلم كله يمكن اختصاره في منظرين رئيسيين مقطعين على التوازي، أحدهما من داخل ثلاجة منزلية حيث تقبع الكاميرا بالداخل، وينفتح الباب لتظهر الممثلة وهي تسحب طعاماً جديداً، وتغلق الباب مرة أخرى. والمنظر الثاني: الممثلة جالسة إلى منضدة أمام لوحة معلقات التذكير التي نراها عادة في المكاتب والشركات أو عند الطلبة تنبههم للمواعيد والمهام المكلفين بها.

  أمام الممثلة الطعام الذي تجلبه مرة بعد أخرى.. تأكل الطعام بنهم يتدرج تصاعداً مع تغير الطعام.. جبن وتوست، جزر وخس، حلوى.. يزداد إحساسنا بنهمها يتصاعد حتى يصل حد الهوس وهي تلعق أصابعها المغطاة بالشيكولاتة تكاد تلتهمها.. وينتهي الفيلم.
  إلى هنا يمكن اعتبار كل ذلك بسيطاً.

  تعبير عن الملل المنتظر بعد الإفراط المعتاد، لكن محمود حجيج يأبى أن يترك لقطاته هكذا.. عابرة غير مؤثرة فيحاول إضفاء بعض الغموض، لكن لأن حيز إنتاج الفيلم، المكان والزمان، محدودين؛ قرر الخروج إلى أفق أرحب من خلال العبارات المقتبسة وتقطيعها ليعطي مساحة من التفكير وبعداً من غموض مثير.

  العبارات/المقتطفات تبدو موازية للتدفق البصري. تظهر مع لقطات متتابعة لباب الثلاجة يفتح ويغلق عبارات متتابعة تقول: "الكثير جداً"، و "يبدو كأنه لا شيء".

  هل يشير ذلك إلى وفرة الطعام في الثلاجة مثلاً؟!

  ربما؛ فالوفرة مع الوحدة ربما صارت مثل لا شيء، لكن نصاً باللون الأحمر ينحى بنا منحى آخر، العبارة الكاملة، مقتطف منسوب لأفلاطون يقول: "حرية زائدة تبدو لا شيء سوى عبودية مفرطة".

  الحرية مرة أخرى، والنص ربما يعيدنا لمفهوم الأورجي الوارد في العنوان.. هنا يصبح معنى الإفراط موضوعاً أكثر شمولا وأوفر غموضاً؛ فقد يكون المقصود أن الإفراط في الحرية قبل الانعزال الصحي الحالي سبب في ألم الإحساس بالوحدة.. الوقوع في الأسر، أسر المكان الذي صار هو ال (مابعد) المقصودة في العنوان، وبذلك يكون الفيلم نوعاً من الحسرة على الحال وسوء المآل.

  قد يكون المقصود بالإفراط هو الواقع حيث الطعام متوفر لدرجة قد تبدد الجوع لكنها لن تشبع النهم الذي يسيطر رويداً على الشخص، أي شخص؛ فيجعله عبداً له.. الطعام في نفس السياق قد يكون رمزاً لكل الغرائز الأخرى السامي منها وما دون ذلك.

  ربما -أيضاً- يكون الإفراط (العربدة) هي إشارة لما قبل.. لما قبل العزلة برمتها، ويكون السقوط في العبودية هو الهاجس، القلق، الخوف من المصير الذي سيصير إليه الإنسان.. المواطن.. الوطن.. ترقب ما قد يحاك في الخفاء بينما الجماهير العريضة قابعة في ذل العزلة تأكل وتشرب، ولا تستطيع أن تغفل عن أن الإفراط قد يكون تفريطاً في المستقبل.. في الحرية.

  ملاحظة أخيرة: لا نستطيع أن نغفل أهمية الكثير من الإشارات (المقتطفات) المعلقة على الحائط خلف البطلة.. ربما لن يستطيع المشاهد العادي قراءة معظمها بدقة، لكن ما دمنا نتحدث عن وسيط مشاهدة مختلف تصبح لهذه العبارات أهميتها، ورغم أننا لا نستطيع هنا عرضها جميعاً، لكن ما لا يدرك كله لا يترك جميعه:

  " إذا تصورت أنك أصغر من أن تغير الواقع.. جرب أن تنام مع بعوضة"
                                   الدلاي لاما الرابع عشر(الحالي)
  "اكتشف ما تحبه؛ ودعه يقتلك"
                                تشارلز بوكوفسكي (أديب أمريكي)

أحمد صلاح الدين طه
dedalum.info@gmail.com
27 يونيو 2020






لمشاهدة الأفلام جميعاً اضغط هنااااااا







قد يعجبك أيضاً
 

 قد يهمك قراءة الموضوعات التالية:
صيد العصاري.. وحدوتة ريس البحر الذي علمنا الكار

هل توجد سينما سودانية؟

وحل.. حوار من الأرض يصعد للسماء

Margelle فوهة مغربية بين حسن خرافي وخرافة حسناء

آخر صورة .. عندما تضرب الذاكرة صانعها

خمس عزلات بيروتية.. خمسة أفلام قصيرة

من العدس المصري الأصفر إلى البيض الأمريكي أبو عيون.. رحلة النص القصير من مصر لأمريكا

دانتيل .. كالعادة







 

شاهد الفيديو واشترك في القناة. . هنا




 
avatar

الأعضاء المٌسجلون فقط يٌمكنهم إضافة تعليقات
[ التسجيل | دخول ]
 

لنشر مقالك هنا.. اضغط اللنك 


إذا لم تكن عضواً في ديدالوم سجل الآن، اضغط هناااا

 
    أضف خبرًا فنيًا         أكتب مقالا على ديدالوم