وظائف خالية

هاملت بالمقلوب.. تراجيديا هاملت ومأساة أوفيليا بطاطس وآكلوها.. بين فان جوخ الهولندي والبدري المصري
Total online: 1
Guests: 1
Users: 0
نيركوك.. صغير السودان الذي مازال يعاني

 
هاملت بالمقلوب.. تراجيديا هاملت ومأساة أوفيليا



  عنوان يأخذنا منذ تقع أعيننا عليه على واجهة مسرح السلام بالقصر العيني إلى هاملت شكسبير، ويحمل لنا سؤالاً لن يكون الوحيد في عرض يحمل الكثير من التساؤلات: ما الذي سيكون مقلوبا في هاملت: الأحداث.. الشخصية.. التاريخ.. الأفكار.. أم غير ذلك؟!

  يتركنا مؤلف العرض دكتور سامح مهران حيرى، بل يتلذذ بحفزنا إلى استكشاف المزيد من الأسئلة التي ربما لن تكون لها إجابة أبدًا، ويعلن صراحة وهو يبتسم ابتسامة طفولية مرحة أن متعة الفن ووهجه يأتي من قدرته على طرح التساؤلات أما الإجابات فلا مجال لها في هذا العالم، والأجدى لنا أن نستمتع بالعرض الشيق الذي قدمه المخرج مازن الغرباوي والذي استطاع فيه تحويل خشبة المسرح إلى شاشة سينما باستخدام الإضاءة وتقنية الهولوجرام، ولو كانت التجهيزات المتاحة ليست الأحدث، لكن ذلك لم يمنع فريق المسرحية من استخراج أقصى إمكاناتها.




 

هاملت بالمقلوب.. تراجيديا هاملت ومأساة أوفيليا



 

 

ما الذي بقي من هاملت؟


  كانت (هاملت أمير الدانمارك) من أطول مسرحيات شكسبير، بها بالإضافة إلى الحبكة الرئيسية التي تتضمن اكتشاف هاملت لموت أبيه غدرا وسعيه للانتقام من عمه الذي هو القاتل، حبكات فرعية عديدة مثل:
  • قتل هاملت لبولونيوس وسعي ليرتس للانتقام.
  • أوفيليا وحبها لهاملت وإهانته لها وقتل أبيها وسفر أخيها ثم انتهاؤها للجنون.
  • فورتنبراس الذي ينتهي إليه الملك بعد النهاية المفجعة لجميع الأبطال.
  • الممثلون الجوالون وتطوير مشهد المسرحية (مسرحية داخل المسرحية).
  • رحلة هاملت إلى انجلترا.

  من كل ذلك يُبقي هاملت بالمقلوب على الحبكة الرئيسية التي تتضمن ظهور شبح الأب المغدور لابنه وإخباره بواقعة قتله ليبدأ الابن رحلته في إثبات الجرم على عمه.. أي أن المسرحية الحديثة تحافظ على كون المعرفة بداية للعذاب، وتضيف حبكة جديدة تتمثل في وجود المتلصصين من عصرنا الحالي الذين يراقبون هاملت ويدرسون تصرفاته دون أن يلاحظ، ويصبح تضفير الحبكتين أو تداخلهما الوسيلة لطرح أفكار الكاتب المعاصرة التي تنتقد الواقع دون أن تعبأ كثيرًا بقضايا هاملت القديمة.. قضية الوجود «أكون أو لا أكون» وقضية الانتقام.. الثأر وتعقب المجرمين «Something is rotten in the state of Denmark».. الخيانة، والبراءة.. سيطرة الشر على العالم.. بؤس المصير الإنساني.. انعدام الجدوى حيث ينتهي الصراع إلى زوال المتصارعين بعد عذاب مهين دون الحصول على أية مكاسب ذات بال.


 

Hamlet inside out هاملت بالمقلوب.. تراجيديا هاملت ومأساة أوفيليا




  بدلا من ذلك يقدم الكاتب قضاياه، والتي هي قضايانا المعاصرة فنجد الحديث عن السوشيال ميديا، ونرى ظلالًا واضحة لثورات الربيع العربي وتهافت النظام الأبوي وتفسخ الأسرة وأزمة اتحاد الدين والسلطة، وهجوما حادًا على المرأة المعاصرة وهاجس الجنس كوسيلة دنيئة لحسم الصراع وشرٍّ مطلق، باختصار يحاول الكاتب "نقد العقل الغربي وانقسامه على نفسه، وارتداده إلى ما قبل عصر النهضة؛ أي ما قبل عصر العلم/العقل"، وهذا كلامه؛ لكننا نستطيع بعد مشاهدة العرض أن نتبين أنه لم ينقد العقل الغربي بقدر ما نقد حالنا العربي أو نستطيع أن نقول إنه يستكشف عجائبية العقل المعاصر في المطلق ويتتبع آثاره في الإنسان الحائر بين إيمان ورثه عن أبيه بحاكمية العقل وسيادة العلم، ثم يقين انتهى إليه هذا الإنسان من أن ما لقنوه إياه عن العلم فشل في أن يحقق السعادة للبشرية، بل كان سببا في تعاستها: وسائل التواصل صارت وسائل تنافر، والتجارب العلمية الرائدة أخرجت للعالم مسوخًا ووحوشًا؛ فلم يكن منه إلا أن تحولت إرادته للبحث عن ما قبل عصر النهضة حتى لو كان خرافة.


 

Hamlet inside out هاملت بالمقلوب.. تراجيديا هاملت ومأساة أوفيليا


 

السلطة ورجال الدين


  بولونيوس في هاملت شكسبير كان واحدا من رجال البلاط، ربما هو أقرب إلى شخصية ماكيافيلي صاحب كتاب الأمير، حكيم القصر الذي يعلِّم الأمراء كيف يصيرون ملوكًا، كيف يحكمون ويسوسون الشعوب. أما بولونيوس المقلوب صار رجل دين لصيقاً بالحاكم حتى يكاد يكون شريكا في الحكم.. عندما يجلس الحاكم عند رأس مائدة يكون مجلسه عند الرأس المقابل، وهو لا يقل دناءة عن ماكيافيللي فإذا أراد الملك؛ سعى هو ودبر وتحايل ليحقق له مأربه مهما كانت خسة المهمة، لكنه يحرص على أن يؤديها بما لا يخالف الشرع ويرضي من يريد أن يرضي الله لا الله ذاته سبحانه.


 
 
 
Hamlet inside out هاملت بالمقلوب.. تراجيديا هاملت ومأساة أوفيليا


 
 


مأساة أوفيليا.. أو مأساة المرأة


  في عرضنا هنا لن تجد امرأة بريئة، أوفيليا التي طالما قُدمت كرمز للبراءة الضائعة بين صراعات الرجال وأطماعهم، تتحول في نسختها الحديثة إلى قطة برية نهاشة.. كأنها فتاة ليل: ترتدي ملابس فتاة ليل تكشف وتصرِّح، لا تقي ولا تستر. كما يميزها اللون الأحمر، ذلك اللون سيء السمعة، لون الشهوة وليالي الخلاعة ورايات الداعرات.. لون الدم والعنف.

  أوفيليا الحديثة لا تضحي من أجل أحد ولا تقف عاجزة أمام إهانات هاملت الذي لم يعد شخصا يدعي الجنون بل هو مخبول بكل ما تعني الكلمة. عندما يهجرها لا تتورع عن استبداله لا بآخر، بل بآخرين.

  أوفيليا التي اختار المصورون دائمًا رسم نهايتها المأساوية المفجعة مما جعلها في الماضي موضعًا للتعاطف من الجمهور والقراء ومتذوقي الفنون ترفض اليوم أن ينتهي بها الحال هكذا بائسة حتى لو فقدت احترام واهتمام العالم، هي لا تحدها ضوابط الأخلاق ولا تمنعها صرامة المجتمع الذي اكتشفت بنفسها ازدواجيته، ووجهه الآخر القبيح، ليس ذلك فقط بل قررت بنفسها لنفسها أن تكون جزءاً من هذا القبح.. وما الضير إن كانت ستصبح في النهاية ملكة ولو لم تكن زوجة لذلك المعتوه هاملت الذي يشغل نفسه طوال الوقت بتأمل قضايا وجودية والانخراط في صراع حول الماضي مضيعًا حاضره ومستقبله، وإذا كان الأمر كذلك فلتتزوج الملك نفسه، العم الخائن مدبر المكائد وقاتل أخيه.. فهي كالآخرين تبحث عن مصلحتها، ومصلحتها فقط.. لم تعد تسمح لعقلها أن يضيع ولا لكاتب أن ينهي حياتها غارقة في ماء بحيرة.




 

Hamlet inside out هاملت بالمقلوب.. تراجيديا هاملت ومأساة أوفيليا




  أما جيرترود، الملكة، زوجة الملك الحاكم وأرملة الملك المغدور وأم هاملت تطل علينا بثوب بنفسجي واللون البنفسجي يليق بالملكات لكنه أيضًا فستان مشقوق شقًا طويلا فاضحًا من الجانب، وبحركات ولفتات وإشارات لاهية نفقد تصوراتنا القديمة عنها كامرأة مخدوعة، بل لا نكاد نشك في أن اتهامات هاملت لها بالضلوع في قتل الأب وكونها عشيقة لأخيه القاتل حتى قبل حادثة القتل لم تكن محض افتراء، ولا نتعاطف معها عندما تموت مثلما تعاطفنا مع جيرترود القديمة وهي تشرب السم بدلا من ابنها.. يبدو أن موتها كان مقدرًا منذ دخلت إلى خشبة المسرح بثوبها البنفسجي فكأن المخرج ينوي قتلها؛ ألا يقول السينمائيون: "إذا رأيت البنفسجي فإن أحدهم سيموت"، وها هي تموت لتفسح المجال لامرأة آثمة أخرى كي تتحد مع السلطة.



 

Hamlet inside out هاملت بالمقلوب.. تراجيديا هاملت ومأساة أوفيليا


 

هاجس الجنس:


  إذا كانت المرأة (كما تُطرح صورتها في مسرحية هاملت بالمقلوب) على هذا القدر من السوء والتدني؛ يصبح مفهومًا أن يكون الجنس آفة كبرى.. عندما يرغب الساسة في علاج أبناء طبقتهم (النبيلة) يقدمون لهم حلولاً يختصرها العرض في ساقين ضخمتين تملآن خشبة المسرح وتحاصران هاملت.. تمثلان المرأة.. العلاج الناجع.. الجنس.

  أيضاً عندما يرغب هؤلاء القادة أنفسهم في التخلص من خصومهم ولو كانوا أقرب الأقربين إليهم، يسلطون عليهم المرأة أيضًا ويوقعونهم في شرك الفضائح الجنسية الكفيلة بقتلهم معنويًا وتشويه صورتهم أمام العالم قبل ركل مؤخراتهم ودفعهم خارج مسرح الحياة تماماً.




 

Hamlet inside out هاملت بالمقلوب.. تراجيديا هاملت ومأساة أوفيليا




  هاملت المعاصر بكل ما بدا عليه من جنون حقيقي وليس تمثيلا كهاملت شكسبير، أدرك المؤامرة، فقسها وقرر أن يبادر بدفعها بوسيلة تليق بجنونه فتخلص من أعضائه التناسلية وحفظها في وعاء زجاجي يعرضه لكل من يقابله إثباتاً لطهارته وبراءته وهي فكرة تذكرنا بجماعة السكوبيتس Skopets التي ظهرت في روسيا في القرن الثامن عشر والذين كانوا يؤمنون أن بلوغ الطهارة الكاملة كما جاءت في الأناجيل يستلزم التخلص من الأعضاء التناسلية للرجل والمرأة على السواء؛ فهي آثار للتفاحة التي كانت سببًا في إخراج الإنسان من الجنة، هذه الجماعة رغم مقاومة السلطات الروسية لها ومحاولات التشهير بأعضائها بجعل الرجال يلبسون ملابس النساء أو سجنهم أو نفيهم إلى سيبيريا زادت وكبرت خاصة مع فرار أعضائها خارج روسيا أو بعد نشأة الاتحاد السوفيتي الذي قلل قبضته عليهم، وكانوا يؤمنون أن المسيح سيقوم/يبعث من جديد بعد أن يصل أعضاء الجماعة الذين يسمون أنفسهم الحمائم البيضاء إلى مائة وأربعة وأربعين ألفًا اتباعًا لما ورد في سفر رؤيا يوحنا اللاهوتي، لكن الجماعة تلاشت وربما اختفت تمامًا قبل منتصف القرن العشرين، ومع ذلك ها نحن نجد أثر إيمان هذه الجماعة المسيحية يظهر من جديد ولو من باب الحيلة عند هاملت المعاصر الذي يمثل الجنس عنده هاجسا مؤرقا.
 




Hamlet inside out هاملت بالمقلوب.. تراجيديا هاملت ومأساة أوفيليا

Hamlet inside out هاملت بالمقلوب.. تراجيديا هاملت ومأساة أوفيليا

Hamlet inside out هاملت بالمقلوب.. تراجيديا هاملت ومأساة أوفيليا

 



 

الفراغ المسرحي والرؤية البصرية


  ربما يكون التصميم البصري لعرض هاملت بالمقلوب أحد أهم عوامل النجاح فيه، وقد رأينا بأنفسنا كيف حاز على رضا أغلب الجمهور والنقاد وأثنوا عليه خاصة أن خشبة المسرح المقام عليه العرض ليست ذات مساحة ضخمة، كما أنه من المعروف أن إمكانات مسرح الدولة عامة لا تتميز بالبذخ وتجهيزات المسرح رغم أنها جيدة إلا أنها ليست الأحدث، لكن روح الإبداع من الفنانين والتقنيين وروح التعاون والدعم من إدارة المسرح أسهمت في تخطي هذه المسألة، وتقديم عرض مبهر.

  اعتمد تصميم الفراغ المسرحي على تقسيم المسرح إلى مستويين أفقيين وثلاث طبقات من العمق، مقدمة المسرح والتي تدور فيها معظم الأحداث اعتمدت على تغيير تصميمها لتناسب المشاهد المتوالية بحيلة بسيطة، عملية وخلاقة، عن طريق قطع متحركة من الأكسسوار عبارة عن صناديق خشبية تتجمع في أشكال مختلفة أو تنتشر فتصير مرة مائدة ضخمة أو منصة في حفل أو مجموعة من القبور المتفرقة. أما الطبقة الثانية من عمق خشبة المسرح ففيها ديكور بسيط يمثل قلعة شبيهة بقلاع أوروبا في العصور الوسطى، وهو ديكور مبني على مستويين أفقيين بالإضافة لأجزاء منه من قماش نصف شفاف أتاح بإضاءته حينا من الأمام وآخر من الخلف مع تنوع لون الإضاءة إيهاماً بوجود مستوى آخر من العمق. وتبقى الطبقة الثالثة من العمق وتمثلها ستارة بعرض المسرح عليها رسوم رمزية نميز منها مجموعة من العيون الضخمة، ربما هي تعبير عن حالة التلصص التي تعتمد عليها المسرحية؛ الإنسان المعاصر يتلصص على هاملت ويتابع تصرفاته لحظة بلحظة، والسوشيال ميديا عيون مفتوحة دائما تدمر حواجز الخصوصية لتصبح حياة الإنسان المعاصر مباحة متاحة وخصوصيته منتهكة طوال الوقت.


 
 

Hamlet inside out هاملت بالمقلوب.. تراجيديا هاملت ومأساة أوفيليا

Hamlet inside out هاملت بالمقلوب.. تراجيديا هاملت ومأساة أوفيليا

Hamlet inside out هاملت بالمقلوب.. تراجيديا هاملت ومأساة أوفيليا

Hamlet inside out هاملت بالمقلوب.. تراجيديا هاملت ومأساة أوفيليا
 
 
 


 
  الإضاءة هي العنصر الأهم الذي استخدمه المخرج ليحول مساحة الخشبة الضيقة إلى نافذة سينمائية الطابع متعددة الطرح متنوعة مجالات الرؤية، ولم يقتصر عمل الإضاءة على إتاحة الرؤية بل استخدمت بأسلوب سينمائي جمع بين التعبير عن المشاعر حيث تتغير الألوان لتعبر عن الحالات المختلفة، وفي نفس الوقت أسهمت الإضاءة في إعادة تشكيل الفراغ المسرحي لتتعدد المشاهد في القلعة والقصر وفي المقابر وغيرها دون أن تكون هناك حاجة لبناء العديد من الديكورات أو تحريك قطع عديدة من الأكسسوارات المسرحية.

  أيضًا، استخدام تقنية الهولوجرام قد تكون عيون العديدين اعتادتها بعد أن ظهرت في حفلات وعروض أخرى لكنها على الأقل أتاحت تنويع المجال البصري على المسرح، كما أتاحت مشاركة نجم مثل خالد الصاوي في العرض ليثريه ويدعمه بوجوده وربما لولا وجود هذه التقنية لما تمكن من المشاركة بالحضور الفعلي طوال أيام العرض.

  تبقى كلمة أخيرة: ليت القائمين على المسرح يعيدون عرض هذه المسرحية ليتمكن من سمعوا عنها من مشاهدتها، وليتمكن من يرغبون في مشاهدتها مرة أخرى -مثلي- من ذلك.


 
أحمد صلاح الدين طه
٢٩ أبريل ٢٠٢٢
dedalum.info@gmail.com


 
 


هاملت بالمقلوب.. تراجيديا هاملت ومأساة أوفيليا



 
avatar

الأعضاء المٌسجلون فقط يٌمكنهم إضافة تعليقات
[ التسجيل | دخول ]
 

لنشر مقالك هنا.. اضغط اللنك 


إذا لم تكن عضواً في ديدالوم سجل الآن، اضغط هناااا

 
    أضف خبرًا فنيًا         أكتب مقالا على ديدالوم