وظائف خالية

من العدس المصري الأصفر إلى البيض الأمريكي أبو عيون.. رحلة النص القصير من مصر لأمريكا

خمس عزلات بيروتية.. خمسة أفلام قصيرة
Total online: 3
Guests: 3
Users: 0
دانتيل .. كالعادة





 
 
 
  فيلم بيض عيون -نسبياً- ليس فيلماً جديداً، لكنني في الواقع لم أره إلا مؤخراً ضمن كم ضخم من الأفلام القصيرة الممتعة التي أتاحتها لنا أزمة كورونا (المستجدة) أو أتاحت لنا الحماس والوقت لمشاهدتها.

  منذ اللقطة الأولى بدا الفيلم (لذيذاً).. لقطة مبهجة بإضاءة ساطعة لبيضتين طازجتين تسويان في طاسة على نار هادئة، وتنعكس فيهما صورة نافذة.. تظهر العناوين باللغتين العربية والإنجليزية، الأخيرة هي العليا، اسم الفيلم أولاً: "بيض عيون.. Fried Eggs" ثم إهداء إلى إبراهيم أصلان.. إلى هنا كل التفاصيل جميلة لكن عادية.. ثم تظهر البطلة، سيدة عجوز، وليس وصف عجوز هنا بمفهومنا المحلي عن العجز، فلنقل (كبيرة السن) بوجه مشرق وعينين فيروزيتين.. تتطلع باستياء -فيما يبدو- عبر نافذة مطبخها إلى عجوز آخر.. رجل يجلس على درج المنزل الخارجي محاولاً إصلاح دراجة..
  لا ندرك لماذا هي مستاءة هكذا؟ منه أم من الدراجة، أو من عملية إصلاحها؟!
  الرجل في حاله.. لكن ربما هو ميراث قديم يبدأ في التكشف في اللقطات التالية، عندما تبدأ السيدة توضيب مائدة الطعام فتكتشف دبلة ذهبية نفسر مع أنفسنا أنها غالباً تخص زوجها الذي هو نفسه الرجل الجالس في الخارج.. على الدرج.

  ملامح الممثلين والمكان وأسماء شارات منتجي الفيلم اللذين أحدهما جامعة أمريكية، والآخر يحمل صورة مشهورة للفنان البريطاني الغامض بانسكي، كل هذه التفاصيل جعلتني أتساءل: ما الذي جاء بإبراهيم أصلان، واللغة العربية هنا؟!

  كانت الإجابة في تترات النهاية، الفيلم مأخوذ عن قصة قصيرة لأصلان اسمها: (عدس أصفر) من مجموعته القصصية: (حجرتان وصالة.. متتالية منزلية)، هنا لم أستطع منع نفسي من قراءة القصة قبل العودة للمشاهدة، وهو سلوك للحق غير سينمائي، لكنه أثرى تجربة المشاهدة حتى لو كان (في الواقع) على حساب الفيلم.

  قصة إبراهيم أصلان التي أخذ عنها الفيلم تحمل من متعة الذاكرة ما يفوق بساطة النص المكتوب بسلاسة وسهولة كأنه ترجمة مباشرة لحديث عامي، أو تقرير لصحيفة يومية.

  التفاصيل.. التفاصيل..
  تفاصيل معظم جيلنا من الطبقة المتوسطة المندثرة أو المنحسرة ألفها في سني عمره الأولى: السيدة، الزوجة، الأم وكيف تبدأ نهارها من الليل بتدميس الفول (مدمس الغد) في دماسة تقليدية منتفخة القعر، ضيقة العنق.. غلوة واحدة على الموقد (البوتاجاز)، ثم وهج سخان كهربائي بطيء جداً يستمر حتى الصباح في تسوية الفول وتحويله من حبوب.. بقوليات، إلى معجون مطبوخ سهل الهضم (نسبياً).

  في الصباح يقوم الزوج.. الحاج.. زوج الحاجة التي أسست طعام فطوره.
  رجلٌ ليس غريباً عن عالمنا.. نكاد نشعر به أباً.. جداً.. أخاً.. يستيقظ ليكمل مسيرة زوجته التي اهتمت به وبطعامه منذ الأمس.. طهت طعاماً لن تتذوقه (لا نعرف لماذا) لكن زوجها ينهض من نومه، يطفئ السخان الكهربائي، ويغرف لنفسه ثلاث ملاعق (بالعدد).. يعد فطوره ويتناول أدويته قبل الأكل وبعده.. يجلس مقلباً قنوات التليفزيون، ويتذكر طعام أمه؛ فيزعجه للمرة الأولى -ربما منذ زواجه- أن زوجته تضع حفنة من الأرز في الفول بدلاً من العدس الأصفر الكهرماني الذي اعتادت أمه إضافته.. هنا تأتي المفارقة.. يشتاق الرجل لطعام أمه، وربما لأمه نفسها. ليس أنانية منه؛ لكنه لاحظ -مثلنا- أن زوجته لم تعد تأكل من المدمس الذي تصنعه.. مادام الأمر كذلك؛ لماذا لا تعده بالطريقة التي اعتادها والتي يرى أنها أفضل؟!

  الزوجة تتعجب.. أتذَكَّرَ طعام أمه هكذا فجأة (بعد تلاتين أربعين سنة)، لكنها رغم ذلك، ودون مَنٍّ ولا أذى؛ تصنع له الفول في يوم آخر بالطريقة التي أرادها، بل تجلس وتأكل منه ويعجبها طعمه: "زي الزبدة".. وتسأله عن رأيه، لكنه هذه المرة لم يتناول من الفول شيئاً.. اكتفى بطعام آخر، ومع ذلك لا يحرمها من إبداء الإعجاب (كنوع من المجاملة الظاهرة فيما يبدو) لكن عندما تعلمه أنها صنعته بالطريقة التي أرادها؛ يعود لصياغة إجابته عن سؤالها، وتتعجب هي.. تتعجب ربما لكذبه، أو مجاملته، أو تحايله.. وتستمر الحياة.

  في القصة المصرية -قصة إبراهيم أصلان- نلاحظ بوضوح أن موضوعها هو ذلك التواصل الخفي الذي تُجِنُّه علاقة أخذت طابع الروتينية بعد أن استمرت لأعوام لم يستطع الزوج أو الزوجة تحديدها بدقة؛ تقول له: "جاي بعد تلاتين أربعين سنة تقول عدس؟"؛ فيجيبها بلسان الراوي/الكاتب بنفس الالتباس في عدد السنين، وكأن فرق عشرة أعوام -عقد كامل- ليست زمنا يستحق الالتفات لا من الزوج أو الزوجة.. أو حتى الكاتب.

  في الفيلم الهجين، الأمريكي مصري الأصل (مخرجة الفيلم ومنتجته هي المصرية السكندرية مي زايد، وهي حدوتة أخرى) نجد دقة أعلى في تحديد سنوات الزواج، ربما لأن الفيلم يتعاطف نوعاً ما مع الزوجة ويجعلها صاحبة قضية اجتماعية، أو ربما لمجرد أن صانعته امرأة، والمرأة عادة تتميز بالدقة المتناهية في التفاصيل.. الزوجة تخبر زوجها أنه استمر يأكل البيض مقلياً طوال أربعين سنة؛ فما الذي جعله يتغير اليوم ويطلب بيض عيون؟!
  رغم الدقة المتناهية في تحديد سنوات زواجهما، أو ربما بسبب هذه الدقة؛ يفتقد الزوجان الأمريكيان وهج التواصل والمودة الموجودان في تفاصيل حياة الزوجين المصريين.
 الزوجان المصريان يعيشان حياتهما كدائرة كهربية موصلة على التوالي، أما الأمريكيان فحياتهما أيضاً دائرة كهربية، لكنها موصلة على التوازي، ورغم ما يضمنه التوصيل الأخير من أمان لعناصر الدائرة كل على حدة.. إذا توقف أحدها ما أثر تماماً على مسارات الطاقة للعناصر الأخرى، لكن مع ذلك تبدو الحياة على التوازي مستمرة بشكل مزعج.. ممل.. كل طرف مع نفسه حتى ليتمنى أن يفر من عالمه الآمن.
  الزوجة المصرية تصنع الفول، والزوج يفطر به.. الزوجة تضع الدماسة على السخان، والزوج يستيقظ فيطفئ السخان، ويرفع القدر.. الزوج يسدي النصح عن طريقة صنع الفول، والزوجة تأكل منه بعدما صنعته بالطريقة الجديدة القديمة التي تعجبها أكثر من طريقتها.. شدٌّ وجذب لا ينتهيان، حتى عندما يكذب عليها يكون لإرضائها، وعندما تستاء من كذبه تدرك أنها الفائزة.
  الزوجان الأمريكيان في المقابل يفعلان كل شيء بشكل منفصل تماماً.. هي تعد البيض وتضعه في الطبق وتملأ كأس عصير البرتقال.. توضب مائدة يفترض أنها مائدة فطوره بنظام ونظافة (شغل فنادق)، وهو بعيد مشغول بإصلاح دراجة لا ندرك من قد يستخدمها في هذا البيت؟!

  لم نره يقرب هذا الطعام أبداً ولا حتى الزوجة رأيناها تأكل منه.. كأن إعداد الطعام ليس إلا تضييع وقت لا طائل من وجوده.. كل شيء يفعلانه يكون في خطوط متوازية حتى لو جمعهما نفس المكان كغرفة المعيشة حيث يجلس هو مطقطقاً بقصافة أظافره، وهي تقرأ كتاباً والاستياء باد على ملامحها إلى درجة (القرف).

  فقط في ثلاث مواضع تقترب خطوط حياتهما، وهو ما يُحدث (كما هو متوقع) ماساً، قفلة من نوع ما.

  المرة الأولى عندما تقرر أن تضع إلى جواره دبلة زواجهما التي ينساها هو في كل مكان، وهنا يفاجئها بمصارحتها أنه يعترض على البيض المقلي الذي ظلت تصنعه له طوال أربعين سنة، وهو (يا عيني) ظل يأكله طوال هذا العمر ظنا منه أنها تحبه هكذا، لكن طالما أنهما لم يعودا يأكلان معاً.. اكتشف أن عليه أن يأكل بالطريقة التي يحبها.. بصراحة لا أستطيع تصور: هل هو شيء عادي في أمريكا أن يظل شخص ما يأكل بيضاً مقلياً في إفطاره طوال أربعين سنة؟!

  ما علينا، هذه عقدة الفيلم، وأعتقد أنها بالنسبة لثقافتنا عقدة أضعف كثيراً من حفنة العدس الأصفر التي كانت مشكلة الزوج في القصة المصرية؛ فالزوج لا يعترض على صنف الطعام نفسه (الذي هو في الحالين الفول)، إنه فقط يناقش تفصيلة تتعلق بالمذاق، كما أن القضية الضمنية هنا تتعلق بالثقافة، ثقافة صنع الطعام بين عائلتي الزوج والزوجة التي مهما طال الزمن تعود مرة أخرى إلى السطح، هنا يأتي بُعد الحنين (النوستالجيا) التي تحيل الزوج إلى ثقافته، بيئته، ماضيه.. طبعه الذي -مهما حاول- سيغلب تطبعه يوماً.

  لم أشعر أن الزوج المصري يتصرف بأنانية إطلاقاً، أو يتجنى على زوجته.. إنه فقط يحن إلى أمه وطعام أمه.. سلوك يحوي شاعرية وحساً مرهفاً، كأنه مثل محمود درويش عندما ردد في محبسه قصيدته الشهيرة: "أحن إلى خبز أمي.. وقهوة أمي.. ولمسة أمي".

  الزوج الأمريكي -على خلاف ذلك- يبدو صريحاً إلى درجة الأنانية عندما يكون كل همه (طالما الزوجة لم تعد تأكل معه)، فإن عليه أن يطلب أن تصنع له البيض (عيون) كما يحبه.. ليس اقتراحاً، وليس حنيناً، وليس محاولة للتجويد.. فقط لأنه يريد ذلك، وأنها يكفيها أن بسببها ظل يأكله مقلياً طوال أربعين سنة.

  التماس الثاني بين حياتي الزوجين الأمريكيين المتوازيتين يحدث وهما في غرفة المعيشة، الزوجة تتابع فيلما قديماً، أبيض وأسود، والزوج يحاول أن يشغل نفسه بأباجورة معطلة، يتفحصها ثم يتركها.. يمد الزوج يده إلى طبق مقرمشات ولا يطوله.. هنا الزوجة التي تبدو منشغلة بمتابعة الفيلم تلاحظ زوجها فتدفع طبق المقرمشات بلطف نحو يده. هنا قفلة كهربية أخرى يظهر أثرها في المشهد التالي مباشرة عندما تقف الزوجة بباب زوجها متغنجة تهتز بدلال طفلة تنتظر رأي أبيها في شيء فعلته، وهي تعرف أن فعلها رائع، وأن أباها لا شك سينبهر به.. لكن الزوج لا ينبهر، بل لا يبدو عليه أي اهتمام وهي تخبره أنها صنعت له البيض بالطريقة التي قال إنها تعجبه.. دون أن يلتفت إليها يخبرها أنه أكل شيئاً آخر.. هنا تصاب بخيبة أمل.. ربما ترغب الزوجة في خلق حالة تواصل مع زوجها شبيهة بالحالة المصرية، لكنها لا تتلقى أي رد فعل من الطرف الآخر.. كأنه وهو الحريص على إصلاح كل شيء في البيت حتى لو لم يكن مستخدماً.. حريص أيضاً أن يبقى الوضع بينه وزوجته على ما هو عليه، آمن مستقر، لكنه رتيب ممل إلى درجة تدفعها للبكاء في المشهد التالي.. بكاء يقود توترها إلى أقصاه، وأقساه، حتى تقرر الرحيل.

  هنا نقطة التماس الثالثة، والأخيرة.. جرس هاتف منزلي عتيق يرن.. المفترض أن أحدهما سيجيب، والمعقول أن يكون نداء الهاتف مهماً لكليهما.. إنه اتصال من خارج دائرتهما المغلقة للمرة الأولى منذ بدأ عالم الفيلم.. يظهر الزوج في عمق المنزل جالساً إلى حاسوبه يقوم بشيء ما.. منشغلٌ ربما بتواصل آخر يراه أهم من المكالمة المجهولة.

 
  تبدو أرضية المنزل غير واضحة، لكن الجدران والأبواب و النوافذ كلها خطوط مستقيمة ومستطيلات رأسية تعطي إحساساً بالرسوخ والجمود.. الكادر منقسم إلى ثلاثة أقسام رئيسية: أرضية غير واضحة، وغرفة في أقصى يمينها الزوج، وباب آخر على اليسار تقرر الزوجة في النهاية الخروج منه بينما من تراك الصوت لازلنا نسمع صوت الهاتف.. يرن ولا يلتفت له أحد.
أحمد صلاح الدين طه
23 مايو 2020
dedalum.info@gmail.com

















 

 قد يهمك قراءة الموضوعات التالية:

صيد العصاري.. وحدوتة ريس البحر الذي علمنا الكار

هل توجد سينما سودانية؟

وحل.. حوار من الأرض يصعد للسماء

Margelle فوهة مغربية بين حسن خرافي وخرافة حسناء

آخر صورة .. عندما تضرب الذاكرة صانعها

خمس عزلات بيروتية.. خمسة أفلام قصيرة

من العدس المصري الأصفر إلى البيض الأمريكي أبو عيون.. رحلة النص القصير من مصر لأمريكا

دانتيل .. كالعادة

 













يمكن مشاهدة الفيلم على فيميو اضغط العلامة المحددة بالأسفل

Fried Eggs (2012) - فيلم بيض عيون from Mayye Zayed on Vimeo.

 


 

avatar

الأعضاء المٌسجلون فقط يٌمكنهم إضافة تعليقات
[ التسجيل | دخول ]
 

لنشر مقالك هنا.. اضغط اللنك 


إذا لم تكن عضواً في ديدالوم سجل الآن، اضغط هناااا

 
    أضف خبرًا فنيًا         أكتب مقالا على ديدالوم