وظائف خالية

صوت الديكور.. قصة حقيقية لم تحدث أبداً

إذا لم تكن اشتريت كاميرا بعد.. تمهل قليلا و اقرأ ما يلي بحرص
Total online: 1
Guests: 1
Users: 0
بحثاً عن نبي خرجنا؛ فوجدنا شيخاً، ثم اكتشفنا أنه.. إله قديم

صوت الديكور
قصة حقيقية لم تحدث أبداً


"أن تُصدقَ أن هذه القصة حدثت فعلاً، أو أن الأسماء الواردة بها صحيحة؛ ليست قضيتي"

ليس غريباً أن يذهب أحدهم – داخل الاستوديو - في نوم عميق. حتى و نحن على الهواء يحدث ذلك، و أصبحنا متصالحين مع الأمر؛ فالكل يعرف و يراعي أن الآخرين مثله يعملون لساعات طويلة في أكثر من قناة، يسعون بينها كالنمل. في أيديهم أكواب القهوة و الشاي، و السجائر المصرية العتيقة، و أحياناً بعض الممنوعات. كل ذلك ليستمروا في العمل. لكن.. بما أن النوم سلطان؛ يسقط معظمنا فيه بين وقت وآخر.. نوبة تغفيل يختلس فيها و بها بعض السلطنة خلف الكاميرا.

في السابق لم يكن ذلك متفشياً كما هو الآن؛ بعد انتشار برامج الهواء التي يظل المذيع يرغي فيها طول الليل أو طوال النهار، ساعات طويلة يتداولونها أمام الكاميرات، و نحن خلفها لا فينا حيل نسمع أو نطيق.

في الماضي، ما كان أحدٌ يتخيل برنامج هواء أطول من ساعة واحدة. كانت كلمة (لايف) نادرة الاستخدام، و تستدعي إلى الذهن إجراءات و إعدادات، و تجهيزات كثيرة، و طويلة، و مرهقة. كان الكل يستقبلها بحرص و حذر و حيطة لا يستحضرها أي شكل آخر من أشكال العمل التليفزيوني؛ فالخطأ – هنا – كطلوع الروح.. لا توبة بعده.

*****

الليلة، كان هواء ككل هواء غيره، كل شيء برتابة و روتينية يتم بانتظام غير مقصود، فقط تفرضه العادة حتى جاءنا صوت غطيطٍ ..عميق، و منتظم.. في اللحظات الحاسمة قبل انطلاق البث.

كان الصوت قوياً حتى أننا نزعنا سماعات الرأس و رحنا نحملق في بعضنا، ثم اندفعت عيوننا تتفقد كل شيء و تتفحص كل من في الاستوديو، و للغرابة لم يكن ثمَّ غريب.. الجميع متأهب، المذيعة في مكانها تراجع الاسكريبت و فني الصوت يضبط سماعة أذنها التي كالعادة لا تريد أن تستقر داخل أذنها الصغيرة بسهولة. جميع المصورين الأربعة منتبهين، و الحاج لطفي كبير المصورين الذي جاء للعمل معنا بعد تقاعده من عمله في التليفزيون الرسمي، كان كعادته متحفزاً بحبات السوداني في يده، كصيادٍ ماهر يستعد ليصوبها نحو من يتمادى في رحلته إلى عالم الأحلام. خلفنا، كان ضيف الفقرة الأولى يجلس على كرسي نصف مريح. يتظاهر بأنه شخص مهم، و يقلب أوراقاً كثيرة.. كأنه سيقول شيئاً ذا قيمة.

بما أن كل شيء على ما يرام – داخل الاستوديو – عدنا لاطمئناننا..

دون شك، شخص ما داخل غرفة التحكم راح في النوم. لا بأس، فلطالما عجت هذه الغرفة بكل أنواع الأصوات كأنها محطة مصر قبل العيد الكبير.. طبعاً أصوات الغرفة الزجاجية لا يسمعها داخل البلاتوة إلا المصورون. أي أنها لن تصل إلى المشاهدين حتى لو أصمت آذاننا.

الغريب أننا فوجئنا بصوت المخرج عبر سماعات الرأس يقول بعد تثاؤب عميق:

  • السادة المصورين.. صحوا هذا النائم داخل البلاتوة.

نظرنا إلى بعضنا و لم يجبه أحد، لكنه كرر كلامه فتبرع أحدنا بالقول:

  • الصوت من عندك.

رد بصوت حاسم:

  • لا الصوت من الداخل.

و استشهد مهندسَ الصوت الذي أكد كلامه.

نظرنا حولنا.. بالتأكيد هناك من انتحى جانباً انعزل فيه عن الدنيا و داهمنا الوقت بينما هو غارق في الأحلام. لكن.. أين؟

ليس من السهل تفحص البلاتوة جميعه بنظرة عين؛ فهو مليء بقطع ديكور و اكسسوار، و حوائط خشبية متحركة، و أركان و زوايا، و بعض المعدات غير المستخدمة، و الكثير من الأخشاب التي كانت يوماً جزءاً من ديكور ما. كل ذلك، و نحن لا نرى مصدر الغطيط، لكن أحد الميكروفونات يلتقطه بوضوحٍ مزعج.

أخذ المخرج يكرر نداءه.. يصيح، مرة عبر سماعات الرأس نسمعه، و مرة عبر مكبر الصوت في الاستوديو، و في كل مرة يزداد صوته توتراً. هو دون شكٍ يظن أن أحدنا نائمٌ خلف الكاميرا، و معه حق، لو كان أي منا مكانه، ما كان ليتصور غير ذلك، لكن ليس مَن داخلَ البلاتوة كمن يسمع.

جميعنا توترنا..

حتى المذيعة، بدت عيناها تائهتين تحاولان اكتشاف المنطقة المظلمة خلف الكاميرات، لكنها طبعاً لن ترى شيئاً؛ فالضوء المسلط عليها يحدد رؤيتها، و يجعلها لا ترى أبعد من حافة الطاولة التي أمامها.

تبرع الحاج لطفي ليحسم الأمر و يخرجنا من دائرة الاشتباه. ذهب يلقي نظرة خلف الديكور، لكنه لم يجد في مرمى بصره أحداً، فتحمس أكثر و قرر أن يستكشف ما خلف الديكور. كان يسير بين حوائط الديكور نصف الشفافة و مصادر الإضاءة الضخمة، فيلقي جسده ظلاً ضخماً مضحكاً على خلفية المشهد جعلنا جميعاً ننخرط في موجة ضحك بصوتٍ عالٍ انكتمت دون مقدمات عندما فاجأنا صوت مساعد المخرج بالعد التنازلي.. انطلقت شارة البرنامج على الهواء.

هرول الحاج لطفي محاولاً الخروج من خلف الديكور، لكن صوت المذيعة داهمه؛ فتسمر مكانه.

سيضطر الحاج للبقاء في مكانه كما هو، واقفاً على مشطي قدميه، كاتماً نفسه حتى نهاية تقديمة البرنامج.

لا بأس، بضع دقائق لتحية الجمهور، و تلاوة ملخص لأهم الأخبار، و لموضوع الحلقة.. لو تحرك أقل حركة لاهتز الديكور خاصة و الحاج لطفي ليس خفيف الوزن على الإطلاق.

الأستاذ جرجس كان أقرب المصورين إليه، حاول مساعدته للخروج، لكن الحاج-كعادته– حريص أكثر من اللازم، فضل البقاء حتى النهاية عالقاً هكذا كراقص باليه انتقل حديثاً لممارسة البانتومايم، مع التجاوز عن الحجم طبعاً .

انتهت التقديمة الثقيلة؛ فتنفسنا جميعاً الصعداء.

تحرك الحاج الذي أراد أن يبدو كمن أنهى مهمة قومية؛ فقال:

  • لا أحد خلف الديكور.

لكن المخرج اندفع من باب البلاتوة لاهثاً، و قال و هو يلاحق أنفاسه بصعوبة:

  • يا جماعة صوت الغطيط هذا عالٍ جداً.. هتودونا في داهية.

تسمر فجأة عندما وجدَنا جميعاً نحملق فيه.. تساءل:

  • مَن النائم إذاً؟!

لم نجبه، لكننا جميعاً بذلنا وسعنا، و انضم لنا فنيو الديكور، و الإضاءة، و الصوت.. انتشروا انتشاراً سريعاً و مكثفاً حتى أن بعضهم صعد فوق ممرات شبكة الإضاءة و فتشها رغم ضعف احتمال أن يفكر شخص ما في النوم بالأعلى.

" لا يوجد احتمال أن يكون أيُّ شخص نائماً داخل البلاتوة"

الأستاذ جرجس قال ذلك ثم عقب:

"إلا لو كان عفريتاً"

قال ذلك فابتسمنا جميعاً إلا هو. كان يبدو جاداً أكثر من اللازم.

غادر المخرج البلاتوة و هو يضرب كفاً بكف، و يحاول أن يقنع نفسه أن الصوت اختفى.

بالفعل، أصبح الصوت خافتاً جداً.. بعضنا لم يعد يستطيع تمييزه نهائياً.

و انطلق الهواء

كالعادة، راحت المذيعة تمتدح ضيفها الذي لو صحت فيه مدائح الاسكريبت، لكان ولياً أو ملَكاً أعلى، هو أيضاً.. من يرى احمرار وجهه و تصنعه الخجل لا يراه قبل الهواء و هو يملي و يؤكد على المعد أن يذكر جميع ألقابه و مناصبه التي أشك أن يجد شخص-غير سوبرمان- وقتاً ليشغلها جميعاً في نفس الوقت.

المهم، مر وقتٌ بسلام، و سارت الأمور على ما يرام.

اندمج الضيف في تهويماته و تحليلاته و قصصه حول موضوع ما، لم أركز كثيراً في محتواه، ربما كان يتكلم في السياسة، أو الفن أو الدين أو كرة القدم، و ربما عن الحب أو الحرب، يحتمل أيضاً أنه تحدث عن الأبراج و السحر و بعض الشعوذة.. كلهم يتحدثون في أحد تلك الأمور، و أحياناً فيها جميعاً. بعضهم يبدأ بالسياسة و ينتهي إلى الشعوذة. لا يهم، كله في النهاية " مَلوْ هوا".

على أي حال، صاحب الغطيط استراح قليلاً و أصبح الصوت خافتاً للغاية، بل ربما اختفى تماماً لبرهة ثم فجأة هجم متوحشاً بعد أن تحول إلى شخير قوي للغاية، صدمنا جميعاً. حتى الضيف و المذيعة انتفضا في مكانيهما، و كوبا الماء أمامهما اهتزا. بدا الضيف متوتراً للغاية، و بدأ يتلجلج في حديثه. حاولت المذيعة تدارك الموقف، استمرت في الحديث. لكن صوت الشخير كان يلاحقها، مع نهاية كل جملة تقولها يهدر كأن شخصاً غير مهذب يبدي اعتراضه على كلامها. يبدو أنها لم تكن تسمع صوت المخرج الذي راح يصيح من داخل حجرة التحكم طالباً منها ختم الفقرة و التنويه عن فاصل، لكنها بعد فترة وجيزة أدركت أن عليها فعل ذلك، و فعلته.

خرجنا إلى الفاصل و الذهول يعلونا جميعاً. الضيف يلملم أوراقه، و المذيعة تتساءل بقلق:

  • هو فيه أيه؟!

لم تكن عند أي منا إجابةٌ لسؤالها. اكتفينا بالصمت. فقط الضيف و هو يغادر الاستوديو وجه كلامه إلينا وقال:"تلك أجهزة تصنت".

انتبهنا لكلماته؛ فأردف دون أن يطلب منه أحد:"أحدهم ركَّب في الاستوديو بتاعكم جهاز تصنت دون شك، و ما تسمعونه هو صوت تداخل الموجات".

قال كلماته و انصرف مهرولاً، بدا كلامه لي نوعاً من المبالغة، لكن الحاج مصطفى رجح نظرية المؤامرة هذه، و قال بإيمان عميق:"لم لا، طول عمرنا في العمل الإعلامي نعرف أن الحيطان لها ودان".

نظرت إليه مستغرباً فقال لي مؤكداً:"نعم، ربما أنت لم تدرك هذه الأيام لكن جيلنا أدرك ذلك.. هناك من كان يستخدم أجهزة التسجيل أكثر منا.. لن أخدعك فأقول لك أنني أعرف من يفعل ذلك، ربما جهات محلية أو أجنبية، أو حتى أناس من الفضاء".

قال مسألة الفضاء هذه و غمز بعينه غمزة تقليدية لا معنى لها، لكني ضحكت و قلت له:"يا حاج إذا كنت أنت لا تعرف، فمن يعرف إذاً؟!".

اقترب مني و همس في أذني:"من عرفوا اختفوا من بيننا.. بعضهم لم يظهر مرة أخرى، و بعضهم ظهر في مناصب مرموقة".

  • "أراهنكم أنه هو من ركبها".

جاء ذلك الصوت من خلفنا، كان ذلك الشيخ مصطفى، المصور الرابع في الاستوديو، و هو "شيخ تليفزيوني" لا يمكن اعتباره ملتزماً دينياً بما تعني الكلمة، لكنه يربي لحية طويلة، و يؤمنا في الصلاة، و للصراحة صوته جميل في التلاوة.

  • من تقصد يا شيخ؟
  • ذلك الضيف. بالتأكيد هو مدسوس علينا، ركب أجهزة التصنت في غفلة منا، و لكن لأنه خائب، لم يتم عمله على أكمل وجه، و لما خاف أن ينكشف أمره قال أعملها بجميلة.

همممم، هذه نظرية المؤامرة مرة أخرى تطاردنا، و تبدو مقبولة إلى حد بعيد، و إلا فما تفسير ذلك الصوت. من رابع المستحيلات أن يكون شخص طبيعي نائماً بيننا دون أن نصل إليه بعد كل هذا البحث.

الأستاذ جرجس كان له رأي آخر.

"ذلك عفريت.. جني.. شيطان خبيث".

"لكن ما الذي يدفع شيطاناً خبيثاً للعب هذه اللعبة معنا، هل الشياطين فاضين لنا؟!"

ضحك الحاج لطفي و قال:"خلاص الشيخ مصطفى يعمل لنا حجاب.. ههههه".

كلاهما الأستاذ جرجس و الشيخ مصطفى أظهرا امتعاضهما، الشيخ مصطفى قال:"لِمَ؟ تراني دجالاً يا حاج!"، أما الأستاذ جرجس فقال:"أنتم لا تعرفون شيئاً.. لقد رأيت ذلك بنفسي.. رأيت القس يخرج الشيطان من جسد ملبوس".

  • و خرج الشيطان أمامك.. و رأيته.
  • نعم.

كلنا نعرف أن الأستاذ جرجس لا يذهب إلى الكنيسة كثيراً، و هذا سر خلافاته الدائمة مع زوجته التي تعمل معنا بنفس القناة، لكنه لا يريد أن يجهر بأن القس الذي رآه و الشيطان الذي خرج كان على يوتيوب، و ما رآه ليس إلا الفيديوهات المنتشرة التي رأيناها جميعاً، و تصديقها متروك لإيمان كل فرد بمدى تفانيها أو إتقانها.

"المية تكدب الغطاس".

يبدو أن الأستاذ جرجس قرر الدخول إلى التحدي، قال: سأدعو القس إلى الاستوديو و نرى.

هنا تدخل الشيخ مصطفى و قال بحدة: نعم نعم!! و بعد ذلك تضعون يدكم على الاستوديو و تفتحوه على أقرب دير!!

ظهر الغضب على الأستاذ جرجس، و استأنا جميعاً لأننا أدركنا أنهما سيدخلان في جولة مشادات جديدة.. طالما فعلا ذلك رغم أنهما أقرب صديقين إلى بعضهما بيننا، إلا أنهما دأبا على التناوش كذلك.. يظلان ساعات يتصارعان كلامياً، و بعد أن يقتلاننا إجهاداً في محاولة الفصل بينهما نجدهما "زي السمن على العسل" و طبعاً "ما ينوب المخلص إلا تقطيع هدومه".

أنقذنا دخول المخرج مهرولاً.. يبدو أننا لم ننتبه لنداءاته. كان يبدو مجهداً. قال بأنفاس متقطعة:"مفيش فايدة، سنعود من الفاصل ثم ننهي البرنامج مباشرة، و غداً إن شاء الله تكون المشكلة حُلت".

في لحظات كان كل شيء انتهى، أطفئت الإضاءة و الكاميرات. غادرنا الاستوديو، و في طريقنا للخارج صاح الحاج لطفي:"لكن هكذا لم نذع أي إعلانات اليوم".

قال المخرج غير مبالٍ: إعلانات أيه يا حاج، و هل عادت ثمَّ إعلانات. دي ماشية بالبركة.. خليها ماشية.

و انصرفنا.
 

أحمد صلاح الدين طه

avatar

الأعضاء المٌسجلون فقط يٌمكنهم إضافة تعليقات
[ التسجيل | دخول ]
 

لنشر مقالك هنا.. اضغط اللنك 


إذا لم تكن عضواً في ديدالوم سجل الآن، اضغط هناااا

 
    أضف خبرًا فنيًا         أكتب مقالا على ديدالوم