أشير بداية إلى أنني أحب باكستان و لا أعرف لماذا ، كما أحب الباكستانيين و أدرك أن ذلك دون شك سببه أنهم أناسٌ طيبون بسطاء على اختلاف طبقاتهم ؛ فمنهم الفقراء الذين تقابلهم في دول الخليج أكثر من مواطني تلك الدول أنفسهم يمارسون أعمالاً بسيطة لقاء أجور زهيدة للغاية . و منهم من يتربعون في قوائم أغنى أغنياء العالم ، و مع ذلك يشتركون أغلبهم في كونهم أناس ودودون حسنو المعشر نقيو الجوهر .
لزمن طويل ظلت لباكستان في أذهاننا صورة فخمة كبلد قوي متماسك ، بلدٌ يملك سلاحاً نووياً مثله مثل الدول العظمى ، و صوته دائماً عالٍ مقدرٌ في المحافل الدولية . لكن بقليل من التمهل و التأمل عندما تعمِّق النظر و تتفحص الصورة ، عندما تتفقد ما حولها تكتشف إنها صورة معلقة بخيطٍ متهالك إلى حائطٍ متصدع ينتظر انهياراً يأتيه في أية لحظة لا قدر الله .
فباكستان تعقـَّـبَتها مشكلات ضخمة بدأت حتى قبل لحظة ولادتها .
بدأت قبل استقلالها و تحولها إلى دولة من دول رابطة الشعوب البريطانية ( الكومنولث ) في 14 أغسطس من عام 1947م. ذلك التاريخ الذي واكب انفصالها عن الهند التي لحقتها بالاستقلال عن الاحتلال البريطاني في اليوم التالي ، لتصبح القارة الهندية مقسمة بين وطن للهندوس في الهند و آخر للمسلمين في باكستان ، و كانت تلك أول قضية معلقة حتى الآن ؛ فإذا كانت الأغلبية العظمى من سكان باكستان من المسلمين ، إلا أن الهند لازالت تشمل عشرات الملايين من المسلمين ، بل إن مسلمي الهند يزيدون عدداً عن المسلمين في عدد من الدول الإسلامية مجتمعة ، فكانت مثلاً معضلة كشمير التي ظلت قنبلة موقوتة أو غير موقوتة لكنها تهدد العلاقات بين البلدين دائماً و تظل محوراً للصراع . كشمير التي تحوي أغلبية عظمى من المسلمين ظلت تحت حكم أقلية هندوسية ، و لم تستطع باكستان خلال صراع طويل - كاد يصل إلى مواجهة نووية – أن تحسم المشكلة .
هذا و قضية الهوية الإسلامية لم تتوقف عند الصراع العسكري مع الجارة الهند . فباكستان التي ظلت تحمل اسم جمهورية باكستان الإسلامية ، حُكمت و لازالت تحكم بواسطة رؤساء لا تخفى توجهاتهم أو ارتباطهم الثقافي بالغرب و وصل الأمر إلى قيام الدولة في عهد محمد أيوب خان الرئيس الثاني لباكستان بإلغاء صفة الإسلامية من اسمها لتصبح جمهورية باكستان .
أيوب خان الذي قال : " سوف نشحن جميع العلماء في قارب و نطردهم خارج باكستان " و قال أيضاً : " نحن لسنا مسلمين فقط ، نحن أيضاً باكستانيون " هو نفسه من أعلن " الجهاد المقدس " على الهند و انتهى أمره بعودة باكستان لاسمها القديم ( جمهورية باكستان الإسلامية ) ثم اضطراره هو نفسه لتقديم استقالته بعد أزمات عدة منها التشكيك في نزاهة الانتخابات التي فاز فيها على فاطمة علي جناح أخت مؤسس دولة باكستان و أول حاكم عام لها ، و معارضة شديدة لحمكه من أبي الأعلى المودودي مؤسس الجماعة الإسلامية في باكستان ، ثم الاستياء الشعبي العام إثر عقده اتفاقية طشقند مع الهند التي قيل إنها حولت النصر في أرض المعركة إلى هزيمة على مائدة المفاوضات مما دفع وزير خارجيته و ذراعه اليمنى ذو الفقار علي بوتو إلى ترك الحكومة و تأسيس حزب الشعب الباكستاني بهدف إقصاء أيوب خان عن الحكم .
لم يكن أيوب خان و عهده كرئيس لباكستان آخر عهد الفصام الذي يصيب باكستان في شأن الهوية الإسلامية .
باكستان التي عقد بها ثاني اجتماع لمؤتمر القمة الإسلامي و التي يتولى رئيسها بحكم منصبه رئاسة اللجنة الدائمة للتعاون العلمي و التقني بين الدول الإسلامية و مقرها إسلام اباد ، هذه البلد التي أعلن فيه الجنرال محمد ضياء الحق عندما تولى الرئاسة عام 1977 أن من مهام حكومته تطبيق الشريعة الإسلامية هو نفس البلد و ذات الحاكم الذي صرح عام 1988 بعد عقد من الزمن أو يزيد قائلاً " إنني أخاف الله و أخشاه ، و أعلم أنه سوف يسألني غداً : لماذا لم تحكم بالشريعة الإسلامية ؟ و الشعب سوف يسألني لماذا لم تأخذ على يد الظالم " أعقب تلك التصريحات محاولة لأسلمة باكستان انتهت سريعاً باغتيال ضياء الحق إثر تفجير طائرته الخاصة بقنبلة ، و لازال الفاعل مجهولاً ؛ حيث كثر أعداؤه فاتهمت أمريكا و المخابرات الإسرائيلية و الشيعة و الليبراليون في باكستان و حتى الجماعة الإسلامية .
الهوية و قضايا أخرى
لا شك ، إن استقرار باكستان مرتبط ارتباطاً وثيقا بالهوية الدينية ، فهي بلد قامت و عمادها الذي التف حوله الجميع اشتراكهم في الإيمان بدين واحد مع اختلاف واضح في جوانب أخرى كانت لتمثل هوية مشتركة لشعب آخر مثل الأصول العرقية أو اللغة أو الثقافة هذه الأمور متنوعة بشكل واضح في باكستان مما انعكس على استقرار البلد ، فلم تلبث بعد عقدها معاهدة مع الهند بشأن كشمير أن نشأ صراعٌ آخر أدى إلى انفصال باكستان الشرقية و التي تحولت إلى دولة بنجلاديش الحالية .
كما انعكس عدم الاستقرار السياسي في أسباب انتقال الحكم بين ثلاثة عشر رئيساً ( و في بعض القوائم هم أحد عشر ) .
كثيرٌ من الباكستانيين يشعرون بفخر إزاء هذا العدد و كأنه دليل على الديمقراطية أو نضج المجتمع و مؤسساته ، لكن دعونا نتأمل قليلاً :
* انتهى حكم الرئيس الأول اللواء اسكندر ميرزا بانقلاب عسكري عام 1958 بعد حوالي عامين من إعلان الجمهورية و كتابة الدستور الباكستاني ، تولى إثره محمد أيوب خان الحكم .
* بعد حوالي سبع سنوات من حكم أيوب خان عقدت انتخابات شُكك في نزاهتها و فاز هو نفسه فيها ، لكنه ما لبث أن اضطر للاستقالة بعد فشله في قضية الصراع مع الهند .
* تولى بعد ذلك الحكم قائد أركان الجيش آغا محمد يحيى خان و الذي انتهى حكمه باستقالته بعد هزيمته أمام الهند و انفصال باكستان الشرقية و تحولها إلى دولة بنجلاديش إثر قتالٍ دامٍ أدى إلى وفاة أكثر من مليون شخص .
* تولى بعد ذلك الرئاسة ذوالفقار علي بوتو الذي بدأ في عهده البرنامج النووي الباكستاني ، لكنه اتهم بالديكتاتورية و زاد في عهده نفوذ الجماعة القاديانية ( الأحمدية ) التي اتهمت بالخروج من الملة ، كما اتهم بتزوير الانتخابات مما أدى إلى انتشار الفوضى في البلاد ، و انتهى أمره بانقلاب عسكري أودع إثره السجن ثم تم إعدامه .
* جاء الانقلاب العسكري بالجنرال محمد ضياء الحق إلى الحكم ، و من حديث كثير من الباكستانيين أشعر أنهم كانوا يحبون هذا الرجل الذي انتهى حكمه بتفجير طائرته الخاصة في عملية اتهم الموساد الإسرائيلي بالضلوع فيها و كان لتوه عائداً من استعراض أسلحة أمريكية بنيَّة شرائها لباكستان .
* بعد ضياء الحق جاء إلى رئاسة باكستان خمسة رؤساء تعاقبوا خلال ثلاثة عشر عاماً و لم يكونوا بشهرة الرؤساء السابقين أو اللاحقين ( منهم من تولى كرئيس انتقالي فقط لمدة شهر واحد ) حتى إن شهرة بعض رؤساء الوزراء طغت على اسم الرؤساء مثلما هو الحال مع بينظير بوتو و نواز شريف الذي يتحدث البعض عنه معتقدين كونه أحد رؤساء باكستان .
* تلى ذلك حكم الجنرال برويز مشرف الذي أعاد الجيش للحكم ، و حكم بيد من حديد ، و لم تخف توجهاته و ميله الواضح و تعاونه مع أمريكا ، ثم أدى اتهامه بالفساد و الغضب العام تجاهه رغم قمعه المعارضة طويلا إلى استقالته فيما بدا كصفقة تنقذه من مساءلة وشيكة .
* بعد استقالة مشرف و تبعاً للدستور الباكستاني تم عقد انتخابات خلال 30 يوماً فاز فيها آصف علي زرداري أرمل رئيسة الوزراء السابقة بينظير بوتو التي اغتيلت في 2007 ابنة الرئيس السابق ذو الفقار علي بوتو الذي تم إعدامه عام 1979م.
* جدير بالذكر أن زرداري سبق سجنه مرتين بتهم الفساد و القتل ، و قيل إن فترة سجنه أثرت على ذاكرته ، كما يذكر أيضاً أنه من أغنى أغنياء باكستان . قدرت ثروته عام 2005 ب 1.8 مليار دولار امريكي بينما اتهم و زوجته بينظير باختلاس 1.5 مليار دولار أمريكي إبان توليها رئاسة الوزراء و يطلق خصوم زرداري عليه لقب السيد 10% في إشارة إلى النسبة التي كان يحصلها ( كرشوة ) في كل الصفقات الحكومية .
* أخيراً ، تبدو الحالة السياسية في باكستان أكثر توتراً مما كانت أبداً منذ استقال برويز مشرف الذي لا أعرف تماما لماذا أُحِس أن مغادرته الحكم كانت – نوعاً ما – تسليماً لباكستان يحولها إلى ساحة أخرى للصراع بين القاعدة و طالبان من جهة و أمريكا من جهة أخرى في ظل حكومة ضعيفة و خانعة تماماً ( بالبلدي لا بتهش و لا بتنش ) ، لا أعتقد أن ذلك كان ليحدث أثناء حكم مشرف الذي مهما قيل عن فساده و تبعيته لأمريكا و غير ذلك ، إلا أنه كان قابضاً على زمام الأمور و كانت في عهده عناصر القاعدة و طالبان - التي لا يمكن إغلاق الحدود دونها نظراً للصعوبة الجغرافية - كانت في الغالب عناصر نائمة تمارس بياتاً في باكستان و لا تتحرك أو تنشط إلا خارجه .
لو كان الأمر كذلك فعلاً لكان علينا النظر لباكستان في المستقبل القريب بعد انتخابات 2013م. و توقع أن تعود أكثر استقراراً في ظل إعلان الرئيس السابق برويز مشرف نيته العودة إلى باكستان للمشاركة في الانتخابات المقبلة ، ولا يخفى على أحد أن حزبه الذي أعلن قيامه منذ ساعات سماه ( حزب الرابطة الإسلامية لعموم باكستان ) هذا الاسم يقتفي أثر حزب الرابطة الإسلامية الذي كان أساسَ باكستان و استقلالها عن الهند و بريطانيا في آن . و هو ما يعني رغبته الواضحة و التي أعلنها صريحة في عودة الاستقرار بعدما عمت الفوضى .
كما أن الإشارة إلى كونه حزباً لعموم باكستان فيها مخاطبة صريحة للمجتمع الغربي و أيضاً إشارة إلى قوة التيارات التي لا تقر الاتجاهات السلفية مثل العلمانيين و الليبراليين و غيرهم بما في ذلك الشيعة الذين لا يرغبون في أن يحكمهم نظام سلفي سني .
الطبيعة تأبى إلا أن تشارك
باكستان بلد ذو طبيعة في عمومه شديدة القسوة ، لكنها أصبحت أكثر ضراوة في السنوات القليلة الماضية متعاونة مع التوتر السياسي و الفساد الإداري لتحول حياة البسطاء إلى جحيم ، و ما يجعلني أقول : " البسطاء " إيماني التام بأن ثورات الطبيعة عادة لا يتضرر بها إلا الفقراء أما الأغنياء و الحكام فعادة لا يصيبهم الأذى بل ربما كانت في الكوارث مصادر دخل و مجالات استثمار جديدة لهم .
في 8 أكتوبر 2005 ضرب باكستان زلزال مدمر أدى إلى مقتل حوالي 200 ألف مواطن كما شرد أكثر من مليوني إنسان ، و كان يعد من أسوأ الكوارث التي ألمت بالعالم و تضافرت الجهود لجمع التبرعات كما تكالب الفاسدون على سرقة هذه التبرعات التي لم يصل معظمها إلى المتضررين ، الأمر الذي دفع كثيراً من المانحين هذه الأيام إلى الإحجام عن إرسال المساعدات أو التباطؤ فيها رغم أن الكارثة الحالية في باكستان أخطر كثيراً من سابقتها حيث أن الفيضانات أو الطوفان الذي هاجم كثيرا من المناطق الباكستانية منذ 27 يوليو 2010م. ألحق أضراراً بحوالي 21 مليون باكستاني أي ما يقارب 12% من السكان و قدرت الخسائر الناجمة عنه ب 43 مليار دولار ، كما قتل ما يزيد عن 1760 شخصاً .
تعقيب : الصور المرفقة غير مملوكة للمدون و قد وردته نقلا عن ناقل عن ناقل ، لذا من يعرف اسم المصور أو معلومات أخرى نرجو تركها في التعليقات أو مراسلة المدون ليتمكن من نشرها