صراع نسائي بقواعد ذكورية: جماليات البناء الكلاسيكي في فيلم "Satisfaction"
بقلم: أحمد صلاح الدين طه
28 Jun 2025
بداية لذيذة تدعمها موسيقى مؤلَّفة شيقة تضفي جوًا يذكرك بأفلام الوسترن القديمة مع حالة من البهجة، ربما تنذر بصراع فيه لفحة الترقب وروح الكوميديا. نظرة ذكورية جدًا لعالم ليس فيه إلا النساء.
في فيلم (الرضا Satisfaction) يراهن المخرج الإنجليزي الشاب Bailey Tom Bailey على الشكل الفيلمي التقليدي وينجح في إثبات أن السرد المتسلسل، أي الحبكة المعتادة التي تعتمد على التوالي والسببية ما تزال قادرة على إنتاج أفلام جديدة مرضية تمامًا لتوقعات الجمهور.
يتناول الفيلم حدثًا واحدًا من خلال مشهد وحيد طويل، نهاري خارجي. الحدث الدرامي وقع قبل بداية السرد؛ حيث يبدأ الفيلم بمبارزة شرف بالمسدسات تدور في العصر الفيكتوري بين امرأتين، سيدتي مجتمع هما (مسز فيريتي إلفينستون) و(ليدي بليندا ألينديل) في حضور وشهادة امرأتين أخريين هما (مسز آن سكولي) مع الأولى والآنسة (أوليفيا كيتوود) مع الثانية.
الصراع ظاهري يتمثل في المبارزة نفسها، لكن السرد لا يكشف لنا سبب الصراع حتى قبل اللحظة الأخيرة بقليل، عند اعتراف الأولى بإساءتها للثانية، ذلك الاعتراف الذي لا يشفي غليل الأخيرة فلا تعلن عن رضاها عندما تُسأل: "هل أنت راضية"؛ لا تجيب بنعم؛ هذه الكلمة التي تنهي الصراع حسب القواعد و"يا دار ما دخلك شر"، لكنها تقرر أن تنتقم من الأخيرة بطلقة أخيرة ليست في الرأس تمامًا لكنها تمثل انتقامًا أنثويًا خالصًا يصيب أعز شيء على السيدة الأرستقراطية المتعجرفة دون أن يرديها قتيلة كما قد يظن المشاهد لوهلة أن تلك هي النهاية المحتومة.

معظم صناع الأفلام القصيرة المعاصرين يميلون إلى الشعرية وإلى الرمز والغموض واقتفاء أثر حبكة متشظية تفسح المجال أمام الزمن القصير الذي يستغرقه الفيلم ليشير إلى ما هو خارج خَطِّه السردي فيترك للمتلقي فسحة لإعمال الذاكرة وتمدد الخيال وإكمال النواقص لتعويض الزمن المحدود الذي يستغرقه عرض الفيلم. مخرجنا هنا يعيد اكتشاف الشكل المعروف للفيلم الطويل المعتاد في مساحة زمنية قصيرة، لكنه بحرفية عالية يمسك بزمام المشهد ويدفع المشاهد منذ اللحظة الأولى حتى النهاية للهاث من لقطة لأخرى دون أن يترك أية فراغات سردية لا درامية ولا بصرية ولا صوتية يمكن أن تشتت المشاهد وتصرفه عن الأحداث الكثيفة المتلاحقة، ولو طرفة عين.
يمكن تصنيف الفيلم على أنه تاريخي لما يبدو من الملابس والأسماء والألقاب والأسلحة المزركشة وأسلوب الحديث والأجواء الإنجليزية بما في ذلك القصر ذي الطابع الكلاسيكي في الخلفية، وحتى الموضوع الذي تدور حوله القصة وهو مبارزة شرف، تلك الممارسة التقليدية التي مورست منذ عصر النهضة بالسيوف ثم بالمسدسات حتى جرِّمت في أواخر القرن التاسع عشر، إذًا فنحن نتحدث عن التاريخ، لكنه ليس تاريخًا حقيقيا، إنه التاريخ كما يمكن أن يقع وليس كما وقع فعلًا.

قد يبدو غريبًا أن نرى النساء تمارسن المبارزة بالمسدسات، فقد كان ذلك التقليد -كما هو معروف- خاصًا بالرجال وتحديدًا رجال الطبقة الأرستقراطية وليس العوام، حيث يمكن (استعادة الشرف) أو حسم خلاف أو اتهام من خلال مبارزة بالسيوف أو المسدسات في وقت لاحق، وهي ممارسة استمدت من قانون ألماني قديم يسمح للمتهم أن يبرئ ساحته من خلال قتال مع من يتهمه، حيث كان الاعتقاد راسخًا بأن الله سيتدخل وينقذ الشخص البرئ، إنها ممارسة تذكرني بما كان يحدث عندنا وربما ما يزال موجودًا بشكل محدود هو تقليد (البِشْعَة) وهي ممارسة ليس فيها مبارزة لكن المتهم يكون عليه أن يلحس بلسانه طاسة حديدية مسخنة حتى التوهج؛ إن كان بريئًا سينقذه الله ولن يحس بالنار أما لو احترق لسانه كان ذلك دليلًا على ثبوت الاتهام وكونه مجرمًا.
رغم هذه المعلومة التي تنفي علاقة النساء بمبارزات الشرف إلا كمشجعات أو متفرجات، لكن هناك قصصًا متداولة عن نساء تبارزن بالمسدسات أو السيوف فيما أطلق عليه مبارزات التنانير الداخلية (أو الملابس الداخلية) petticoat duels وسبب إطلاق هذا الاسم أن المتنافستين تخلعان فساتينهما الخارجية حفظًا لها، طبعًا يسهب البعض في توصيف هذا الصراع بكونه كان يتم بصدور عارية أو Topless والواقع أن لا دليل على ذلك لأن النساء في أوروبا في ذلك الوقت كُنَّ يرتدين عدة طبقات من الملابس فوق بعضها وحتى الملابس التي يشار إليها بكونها ملابس داخلية حينها هي في الواقع أكثر احتشامًا من الملابس التي ترتديها سيدة محترمة جدًا -اليوم- في مكان عام.
يستلهم الفيلم إحدى الحكايات النادرة عن مبارزة بين سيدتين وقعت في أواخر القرن الثامن عشر عندما سخرت إحداهما (السيدة إلفينستون) من الأخرى وقالت إنها تبدو أكبر من سنها الحقيقي، وهذا ما اعتبرته الأخرى إهانة لا تغتفر جعلتها لا تسامح غريمتها إلا بعد أن تبادلا إطلاق النار ثم تبارزا بالسيوف حتى جرحت إلفينستون مما جعلها تقر بخطئها، لينتهي الصراع.
الفيلم أغفل المبارزة بالسيوف وركز على جولات عديدة متصاعدة من إطلاق النار.
أيضًا نلاحظ في الفيلم الملامح التي يظهر فيها بوضوح العرق الإفريقي لدى الممثلة التي تؤدي دور (ليدي ألانديل)، وهو أمر غير متوقع في العصر الفيكتوري، فقد كان الفصل العنصري في أقصى حالات تشدده في أوروبا عامة، وبريطانيا خاصة. أي أننا إزاء تاريخ صنع خصيصًا لهذا الفيلم دون سواه.
الموسيقى احتلت مكانًا بالغ الأهمية في إضفاء الأجواء الكلاسيكية سواء بتيمتها الأساسية أو توزيع العزف بأصوات آلات أوركسترالية أضفت فخامة وخفة وتعبيرية ترافقت مع تصاعد الصراع، ذكرتني بشكل خاص بأعمال المؤلف الموسيقي الروسي الكبير مودست موسوريسكي ربما للحس الدرامي القوي الذي بدا يمكن سماعه بشكل مستقل يروي قصة موازية، الموسيقى تواكب جميع الحركات، اللقطات والقطعات، والتعبيرات على وجوه الممثلين، وتتداخل مع أصوات الوتريات المتراوحة بين الحدة والغلظة وأصوات آلات النفخ النحاسية أصوات من الطبيعة مثل صوت الغراب الذي يبدو كما لو كان اصطناعيًا أو تم التحكم فيه بوسيلة ما لجعله جزءًا متماهيًا مع تدفق الموسيقى، يؤدي دوره في اللحن وليس مجرد مؤثر صوتي طبيعي.

أما تصميم الشخصيات بملابسها ومكياجها واكسسواراتها فقد كانت معبرة جدًا وليست مجرد تجسيد اعتباطي للمرحلة التاريخية فمثلًا؛ ليدي ألانديل ترتدي ملابس تميل إلى الذكورية بدون تبرج أنثوي إطلاقًا عدا بعض أحمر الشفاه الزاعق والكحل وتزجيج الحواجب السميكة نسبيًا تلك الأشياء التي تجعل ملامحها أكثر تحديدًا خاصة في اللقطات القريبة وهو ما يعبر عن شخصيتها القوية الساعية للانتقام، بالإضافة إلى سترة سوداء وقبعة طويلة بنفس اللون خالية من الحليات الزخرفية التي قد تميز الأنثى باستثناء سير جلدي بسيط يطوق القبعة تتوسطه عقدة معدنية، بينما في المقابل مسز فيريتي تبدو في قمة زينتها برداء فخم مزركش باللون القرمزي لون الأرستقراطية، وترتدي قبعة شديدة الارتفاع مزينة بالريش من نفس اللون، يعني كما نقول عندنا "على رأسها ريشة" تعبيرًا عن الامتياز الطبقي، وهكذا كما أظهرت الأزياء هذا التناقض الشاسع بين بطلتي الصراع، عبرت بوضوح عن شخصيتي التابعتين اللتين ستتوليان تحكيم المبارزة؛ فتابعة الأولى ترتدي زيًا نسائيًا رقيقا بلون سماوي يعبر عن البراءة وقبعة تذكرك بالفتيات الصغيرات في قصص الأطفال المصورة، بينما تابعة الثانية سيدة لا تقل عنها عجرفة بالغليون الذي تدخنه بتعالٍ، وإن كانت من مظهرها تبدو من طبقة اجتماعية أقل كثيرًا من سيدتها بملابسها التي تبدو كملابس الخادمات في هذه الفترة الزمنية، وبذلك يجعلنا مظهر كل شخصية نقرأ طبيعتها ونفهم دورها وتاريخها وعلاقتها بالشخصيات الأخرى.
رغم البساطة التي يبدو عليها تصميم الكادرات ومحدودية حركة الكاميرا والتصوير في النهار في ظروف خريفية حيث الضوء ساطع لكنه ناعم منتشر في نفس الوقت ومكان التصوير أرض منبسطة تغطيها الحشائش الكالحة الجافة، واللقطات معظمها سردية مباشرة متسلسلة حسب الحبكة التقليدية في الفيلم دون تعقيد ظاهري، لكن هذه السهولة البادية والانسيابية الظاهرة تخبئ خلفها مجهودًا شاقًا قد لا تميزه عين المشاهد العابر لكن عينًا خبيرة ستقدره، وهو ما يقال عنه دائمًا "السهل الممتنع".
على سبيل المثال؛ مدير التصوير دائمًا رغم هذا الضوء المنتشر الذي يملأ المكان والذي يمكن أن يجعل الصورة مسطحة للغاية بدون عمق يحافظ على كون اتجاه الضوء عكس الكاميرا بحيث يضفي تجسيدًا على الكتل التي يشكلها الممثلون والشجرة البعيدة في الخلفية، وطبعا يظهر الأمر للمشاهد أن التصوير تم في ضوء النهار وأن المصور لم يبذل جهدًا في الإضاءة لكن واقع الأمر أن التصوير في إضاءة كهذه أكثر صعوبة من التصوير الليلي مثلًا أو التصوير داخل استوديو حيث يتوجب على المصور إقصاء كل ما يزيد عن حاجته من هذا الضوء الغامر وهي مهمة صعبة للغاية تحتاج إلى العديد من حواجب الضوء والعواكس الموجبة والسالبة حيث الأولى تعيد توجيه الضوء والثانية سوداء تمنع انعكاسه وتزيد التباين ولو قليلًا حتى تثري الإحساس بالعمق في الصورة ولو بشكل نسبي.
أيضا أسهم تكوين الكادرات بمهارة عالية في إبراز العلاقات بين الشخصيات وتطور السرد. مثلا، معظم الفيلم/المشهد تكون فيه مواجهة بين فريقين أحدهما تشكله المرأة المنتقمة وتابعتها الفتاة الرقيقة وكلتاهما متوائمتان وهذا الفريق يحتل يمين المشهد مما يجعلهما عندما تظهران في لقطة متوسطة تكون الأولى على يمين الكادر بينما تنظر في اتجاه اليسار حيث تقف الفتاة وبذلك يسهم التكوين المغلق في تحديد العلاقة المتماسكة بينهما، أما على الطرف الآخر فنجد السيدة المتغطرسة على يمين الكادر وتنظر أيضًا في اتجاه اليمين والمرأة التي جاءت لتقف في صفها على اليسار (صفر على الشمال مجازًا) وبذلك يفتح اتجاه نظرهما الكادر إلى اليمين فيبدو أن العلاقة بينهما ليست متماسكة كالأخريين.
عند إطلاق النار نجد توظيفًا أكثر للقطات القريبة التي تسمح للمشاهد بالغوص في أعماق انفعالات المتبارزتين، ونلاحظ أن التكوين يتطور تبعًا لهذه الانفعالات حتى إنَّ المتعجرفة بعد أن تصيبها طلقة في يدها ولا يصبح لديها من الثقة ما يسمح لها باستئناف تعاليها على الأخرى التي تبدو لها وقد انتوت أن تقتلها حرفيًا هنا نلاحظ في اللقطات القريبة أنها يأتي وضعها في يمين الكادر ناظرة إلى الخارج وخلفها مساحة فارغة، هذا الاختلال في التكوين التقليدي للكادر إسقاط على الحالة التي وصلت لها من الارتباك، وفي المقابل نجد الأخرى وقد استقرت عينها عند منتصف الكادر ليعبر التكوين عن حالة الثبات والثقة والإصرار التي اكتسبتها بعد أن أصابت الأخرى واقتربت من النصر.
المونتاج لعب دورًا هامًا للغاية أيضًا في سحب أنفاس المشاهد من اللحظة الأولى خلال صراع موزون متصاعد مكثف مع ترك فترات صمت محسوبة بدقة.
إن فيلم الرضا أو Satisfaction فيلم يستلهم لحظة تاريخية مركزة ومميزة، ويتناولها من خلال سرد سينمائي كلاسيكي، بقواعد تذكرنا بأن الفيلم القصير استلهم أسسه من القصة القصيرة بضوابطها التي عرفت منذ نهايات القرن الثامن عشر وكانت عادة تدور حول حدث طريف ومفارقة قد تكون في الغالب مضحكة وكانت دائمًا تبدأ بعبارة "يا للعجب!" وكذلك نجد الفيلم يختار حادثة وقعت في نفس هذا الزمن وهي حادثة غير معتادة مما يضفي عليها نوعًا من الطرافة، كما أن انفتاحها على التاريخ يجعل المتلقي شغوفًا بمعرفة حقيقة الواقعة وأبعادها الأخرى التي ربما ليس في مدة الفيلم القصير ما يسمح بالتوسع في طرحها.
اتبع صانع الفيلم بيلي توم بيلي نهج العمل السينمائي الكلاسيكي الذي أقرته الاستوديوهات الكبرى من بدايات السينما. كما هو واضح من تترات الفيلم، لن تجد شخصًا يقوم بعمل مزدوج كما يحدث عادة في الأفلام القصيرة التي قد يقوم فيها فرد بأدوار عديدة كأن يكتب ويصور ويمنتج في نفس الوقت، لكن هنا لدينا مؤلف للسيناريو ومدير تصوير ومونتير ومؤلف موسيقي، كما أن الممثلات الأربعة جميعهن محترفات وعلى الأقل اثنتين منهن لديهن خبرة كبيرة في التمثيل وترشيحات لجوائز هما Gwyneth Keywoth وMichele Moran كما أن الممثلتين الأخريين Ellie Gallimore وMia Khan لا تقلان إجادة في أداء الأدوار التي تميزت بتنوع في الأداء بين الكوميديا الضمنية والإثارة والصراع النفسي الداخلي بين رغبات المتنافستين في تحقيق التفوق وإرادة الرفيقتين في إنهاء الصراع.
الرضا Satisfaction فيلم يقدم في إطار كوميدي يبدو بسيطًا لكنه محكم للغاية، قصة تاريخية ممتعة ترشح صانعه بقوة للدخول في عالم الأفلام الطويلة التي أعتقد أنه سيكون قريبًا واحدًا من صناعها البارزين.
صور الميكينج منشورة بإذن من المخرج Stills and BTS - Devin De Vil