هل توجد سينما سودانية؟
بقلم: أحمد صلاح الدين طه
12 Mar 2021
نهاية عصر الرينج هل سيكون حسرة إضافية للمصورين
Total online: 2 Guests: 1 Users: 1ahmonad
تهمة الإساءة لعقل المواطن المصري.. بمناسبة موضوع سلمى الشيمي
سؤال قد يبدو بسيطاً، لكن إجابته معقدة، طرح نفسه بقوة عندما فوجئنا كجمهور بأفلام قوية تحصد الجوائز في المهرجانات، وتلفت نظر عامة الجماهير، وقادمة من السودان.. طرح نفسه عندما أعلن مهرجان الأقصر للسينما الأفريقية أنه سيحتفي بالسينما السودانية فواجه تساؤلات عن: كيف تحتفون بسينما غير موجودة أصلاً؟!
الواقع أن إجابة السؤال تأخذنا إلى تحليله إلى عدة تساؤلات: أولاً عن وجود السينما في السودان، وثانياً عن صناع السينما السودانيين، وثالثاً وأخيراً نصل إلى التساؤل الأشمل عن وجود سينما سودانية.
قد لا يكون صعباً على السودان، مثلها في ذلك مثل مختلف الدول العربية -وربما جميع العالم أيضاً- أن تحتفي بمرور مائة عام على السينما في السودان.. نعم دخلت السينما إلى السودان قبل أكثر من مائة عام، وهي معلومة صحيحة، لكنها معلومة احتفالية مضللة إلى حد بعيد؛ مثلها كما يحدث عندما نحتفي في مصر بمائة عام من السينما مرات عديدة: مرة بمرور مائة عام على أول عرض سينمائي في مصر عام 1896، ومرة بمرور مائة عام على إنشاء أول دار عرض في مصر 1897، ومن حينها نجد سبباً للاحتفال بمائة عام على السينما كل فترة مع أول تصوير سينمائي، وأول شريط توثيقي، وأول تصوير روائي أو ذي طابع تمثيلي وهكذا.. مثلنا في ذلك مثلما قد تحتفي السعودية مثلاً بأول فيلم تم تصويره عن الحج، كعلامة في تاريخ السينما السعودية وهو في الواقع فيلم من إنتاج استوديو مصر، أو أقدم لقطات عن الحج وهي لمصور أوروبي جاء مع بعثة حج أندونيسية أو ماليزية، كما يهتم السينمائيون الفلسطينيون برائدي السينما الفلسطينيين إبراهام وبدرو لاما (أو إبراهيم وبدر لاما) ذوي الأصول الفلسطينية الذين ولدا في تشيلي ثم عاشا وأنتجا ومثلا وأخرجا أفلامهما بمصر، أي أنهما يعدان في نفس الوقت رواداً للسينما المصرية.
وهكذا يجد البعض سبباً للاحتفاء بمرور أكثر من مائة عام على السينما في السودان حيث قام مغامر سويسري بتصوير فيلم عن رحلة صيد قام بها عام 1910، وعرض هذا الفيلم في ظروف غير واضحة تماماً: هل كان عرضاً عاماً أو محدوداً أو خاصاً بأصدقائه مثلاً، لكنه تم في مدينة الأبيض عاصمة ولاية شمال كردفان عام 1912، وهذا سبب كاف للتأريخ للوجود السينمائي على أرض السودان، حتى لو لم يكن لهذا الوجود وقع حقيقي في حياة السودانيين الذين ربما لم يتح إلا لفئة محدودة جداً منهم مشاهدة هذا العرض.
بعد سنوات من هذه الواقعة أنشئت أول دار عرض للسينما الصامتة عام 1924، ثم أول دار عرض للسينما الناطقة 1930، ثم شركة السينما السودانية 1940 والتي أنتجت بالتعاون مع شركة مصر للتمثيل والسينما أفلاماً غنائية قصيرة (فيديوكليبات بلغة أيامنا هذه) لمطربين سودانيين. ثم أنشأت الإدارة البريطانية وحدة أفلام السودان 1949 لإنتاج أفلام تسجيلية وتعليمية، واستمر الوجود السينمائي عبر نقاط مضيئة متقطعة طوال السنوات التالية وعبر كثير من المتغيرات السياسية والاجتماعية التي من المؤكد أثرت على السينما في السودان كما أثرت على كل مناحي الحياة الأخرى، وصل عدد دور العرض السينمائي في السودان في أفضل الحالات إلى 67 دار عرض، وتقلص في أحلك الفترات إلى 7 دور عرض فقط كانت تعرض الأفلام الهندية للعمال الهنود، وللغرابة كان القانون يمنع إطفاء الأنوار أثناء العرض، وهي الحالة - فيما نعرف- الوحيدة في العالم التي يقدم فيها عرض ضوئي وسط الأضواء بقانون ملزم.
من الأفلام الهامة في تاريخ السينما في السودان فيلم آمال وأحلام عام 1970 الذي يعد أول فيلم سوداني، وفيلم عرس الزين 1976 الذي هو فيلم كويتي وسوداني في نفس الوقت، كويتي لأن مخرجه ومنتجه خالد الصديق كويتي، وسوداني لأنه مأخوذ عن رواية للأديب السوداني الكبير الطيب صالح، وتدور أحداثها في السودان.
قد لا نعرف بالإضافة للفيلمين السابقين إلا خمسة أفلام طويلة أخرى: فيلمي (تاجوج) و(بركة الشيخ) لجاد الله جبارة الذي بدأ إخراج فيلم آخر عن رواية البؤساء لفيكتور هوجو وأتمته ابنته سارة جبارة بعد أن توفاه الله، و(رحلة عيون) لأنور هاشم و(يبقى الأمل) لعبدالرحمن محمد عبدالرحمن، بالإضافة طبعاً لأفلام قصيرة والعديد من الأفلام التسجيلية التي كانت الهدف الأساسي لإنشاء وحدات الإنتاج السينمائي الرسمية في السودان.
قصة فيلم آمال وأحلام بين الإنجاز والواقع:
قد تكون قصة إنتاج أول فيلم سوداني طويل ملهمة إلى حد بعيد ودرامية إلى حد أبعد، منذ نشأة مصوره ومنتجه الرشيد مهدي الذي بدأ محترفاً عمل النجارة الذي درسه وتخصص فيه، ثم هوايته للتصوير الفوتوغرافي الذي قاده ليكون رائداً في مجال احتراف الفوتوغرافيا، حيث صنع أول كاميرا استخدمها من الخشب تضم معمل تحميض داخل الكاميرا، ثم أنشأ أول استوديو تصوير في منطقة عطبرة، وكان رائداً أيضاً في مجال الطباعة بإنشاء أول مطبعة في المنطقة، وأيضاً رائداً في مجال الإنتاج السينمائي حيث كان أول سوداني ينتج ويصور فيلماً روائياً طويلاً، وهو فيلم آمال وأحلام الذي قالت بطلته ليلى جوقا أن الرشيد مهدي كان يصرف من جيبه بسخاء على إقامة وتنقلات وطعام الفريق طوال مدة التصوير.
بذل الجميع جهداً كبيراً استمر قرابة ثماني سنوات منذ 1962 وحتى 1970 عام خروج الفيلم للنور، عرض الفيلم في دار سينما أم درمان الوطنية، بعد أن تم تحميضه بمعامل دوناتو بميلانو الإيطالية، وبعد أن مر بمقص الرقيب في الخرطوم الذي اقتطع فيما يقال نصف مدته حيث كان طول الفيلم ثلاث ساعات، استطاع الرشيد مهدي تعويض المدة المقتطعة بإضافة أغان واستعراضات، وحقق الفيلم نجاحاً كبيراً، وتم عرضه في المدن السودانية، ومنح الرشيد أرضاً لينشئ عليها أول استوديو سينمائي بمنطقة عطبرة، واستورد له معدات تصوير ومونتاج وطبع وعرض من إيطاليا، لكن ذلك لم يعن إنتاج أي فيلم روائي طويل يذكر بعد ذلك بواسطة الرشيد مهدي، وتفرق صناع الفيلم بعد ذلك كل في عالمه، حتى أن بطلة الفيلم ليلى حسين الشهيرة باسم ليلى جوقا أصبحت تجلس بقدرة فول في أحد الأسواق تبيع الفطور لرواد السوق وكفى.
فيلم آمال وأحلام كتبه الدكتور هشام عباس، وأخرجه إبراهيم ملاسي، تم تصويره بكاميرا 16مم بدون صوت ثم تم تسجيل الصوت بأسلوب الدوبلاج.
استوديو جاد للإنتاج السينمائي:
ومضة أخرى استمرت إلى حين كانت مع نشأة استوديو جاد للإنتاج السينمائي الذي تؤرخ صورة قديمة للافتته -التي لم تعد موجودة- أنه أسس عام 1970 تقريباً في نفس العام الذي رأى فيه فيلم آمال وأحلام النور، لكن الاستوديو أنشأه سينمائي آخر، مصور أيضاً هو جادالله جبارة، الذي بدأ حياته جندياً في الحرب العالمية الثانية مما سمح له بالتنقل خارج السودان والتعلم، وتقاعد بعد الحرب ليبدأ في القاهرة نشاطاً في مجال تسجيل الصوت في استوديوهات السينما، ثم يعود إلى السودان ليلتحق بالعمل في عروض السينما المتنقلة، ثم يسهم في تأسيس وحدة الإنتاج السينمائي ثم مؤسسة الدولة للسينما، وترك بعد رحيله عام 2008 تراثاً ضخماً من الأفلام الروائية القصيرة والتسجيلية وأكبر عدد من الأفلام الطويلة لمخرج واحد في السودان وجوائز عالمية لأفلامه: تاجوج، وبركة الشيخ.
لم يترك جادالله جبارة الكاميرا من يده حتى وافته المنية كما تقول ابنته سارة التي كانت عينه التي أخرج من خلالها فيلمه الأخير البؤساء، والذي عمل عليه بعد أن فقد بصره، فكان يتخيل وتنفذ هي، وبعد أن توفي قبل أن يتم الفيلم أتمته هي، كما ورثت شغفه بالسينما مع كم ضخم من أشرطة السليلويد والصور التي تواصل سعيها مع جهات عالمية لحفظ هذا التراث وترميمه ورقمنته، كما تتنقل به كما روت في أحد اللقاءات لأن على الشباب ومن حقهم أن يروا كيف كانت السودان.
نادي السينما السوداني:
تأسس عام 1968 برئاسة سعاد إبراهيم أحمد (1935-2013) الملقبة بأم النوبيات وكانت رحمها الله سياسية مهتمة بالثقافة السودانية، والنوبية خاصة. كان هدفه الأساسي إقامة عروض سينمائية مختلفة عن العروض المعتادة في دور العرض العادية، بعيداً عن مقص الرقيب، كما يهدف لنشر الثقافة السينمائية، ولفت نظر الجمهور السينمائي لأهمية السينما.
سودان فيلم فاكتوري:
هو منصة لتشجيع صناعة السينما أسست عام 2010 بدعم من معهد جوتة الألماني (فرع السودان)، وساهم في إنتاج أفلام وتدريب جيل من السينمائيين الشبان، كما أقام مهرجان السودان للسينما المستقلة عام 2014 كأول مهرجان سينمائي في السودان على الإطلاق.
سينمائيون في تاريخ السودان:
أسماء لا يمكن حصرها بدقة، ليس لأنها كثيرة لكن لأن لا أحد اهتم أن يوثق لتاريخ السينما في السودان، فلم تكن صناعة ذات بال، حتى مع وجود جهات الإنتاج الرسمية وغير الرسمية المحدودة، اهتمت الدولة باستيراد الأفلام وتوزيعها دون أن تعتبر الإنتاج مجالاً قد يلفت نظر المسؤولين، ما خلا بعض الإنتاج التطبيقي مثل توثيق الأحداث أو الإعلام أو الدعاية والتواصل عامة، ربما آمنت الدولة في السودان بما ادعاه من قبل الممثل والرائد السينمائي المصري فلسطيني الأصل بدر لاما عندما زار السودان وسأله أحد الصحفيين عن إمكانية وجود سينما سودانية؛ فأجاب بأن اللهجة السودانية لا تصلح للتمثيل والسينما والمسرح، هذا الادعاء الذي حدا بالمصور السوداني الرائد الرشيد مهدي أن يغامر بإنتاج فيلم آمال وأحلام، لكن فيما يبدو أن الاعتقاد نفسه تملك نفوس البعض وجعلهم يتكاءدون زهداً في سبيل السينما أو الاهتمام بها.
مع ذلك يمكننا استبيان مجموعة من الأسماء التي لمعت كومضات برق في تاريخ السينما في السودان مثل:
-
كمال محمد إبراهيم: يعتبرونه شيخ السينمئيين السودانيين، والأب الشرعي للسينما في السودان، فقد كان أول المبادرين لتأسيس وحدة أفلام السودان التي أسستها الإدارة البريطانية بناء على مذكرة كتبها، ثم كان أول من عمل كمخرج وكاتب سينمائي وأول من قدم فيلما قصيراً هو فيلم (طفولة مشردة)، ثم فيلماً آخر هو فيلم (المنكوب)، كما ألف كتاباً عن تاريخ السينما في السودان.
-
الرشيد مهدي: رائد السينما السودانية، مصور، ومنتج، غامر بإنتاج أول فيلم روائي طويل يعتد به في تاريخ السينما السودانية، فيلم (آمال وأحلام).
- إبراهيم ملاسي: مخرج فيلم آمال وأحلام، ولا تتوفر عنه معلومات وافية أكثر من كونه رائداً ثقافياً وساهم في نشر الثقافة في السودان.
-
جادالله جبارة: واحد من الرواد الكبار، صانع سينما ومؤسس لصناعة للأسف حالت الظروف السياسية والاقتصادية والاجتماعية دون اكتمالها، لكن ذلك لا يقلل أبداً من إسهامه، سعى وتعلم، وساهم في الكيان الرسمي لصناعة السينما في السودان، كما أسس استوديو جاد ككيان مستقل قدم من خلاله كماً ضخماً من الأفلام الوثائقية، والأشرطة التوثيقية، وفيلمين طويلين يعتد بهما في إطار الصناعة السينمائية المتقنة هما فيلمي: (تاجوج)، و(بركة الشيخ). وكان هناك مشروع سينمائي ثالث وهو فيلم عن رواية البؤساء لفيكتور هوجو استمر عمله فيه حتى وفاته رغم إصابته بفقد البصر لكنه لم يتخل عن حلمه، الذي أكملته ابنته سارة جبارة بعد وفاته.
- سارة جادالله جبارة: ما دمنا تحدثنا عن الأب الرائد؛ فلابد من ذكر الابنة سارة التي ربما كانت الوحيدة من الأبناء العديدين التي اندمجت في الصناعة وكانت الذراع الأهم لوالدها حتى أنها كانت عينه التي حاول أن يحقق من خلال عونها له بعد كف بصره إنجاز فيلمه الأخير عن رواية الأديب العالمي فيكتور هوجو: (البؤساء)، الفيلم الذي غادر الأب الدنيا؛ فأكملته الابنة سارة، غير أفلام وثائقية أخرى أنجزتها.
- أنور هاشم: درس الإخراج في مصر، وأخرج العديد من الأفلام القصيرة والوثائقية المميزة، لكنه اشتهر أيضاً بفيلمين روائيين طويلين أخرجهما، فيلم شروق الذي لم ير النور لأنه الفيلم الأول وربما الوحيد الذي منعته الرقابة في السودان، ثم فيلم رحلة العيون الذي اعتمد فيه على نجوم مصريين مثل بطلة الفيلم سمية الألفي، ومعها الفنان القدير محمود المليجي، وظهرت في الفيلم أيضاً الراقصة نجوى فؤاد، والفنانة نبيلة السيد والفنان أمين الهنيدي، والمطرب التونسي الشهير لطفي بوشناق. جزء كبير من الأحداث يدور في مصر، وامتدت العناصر المصرية في الفيلم إلى العناصر الفنية مثل مدير التصوير علي خيرالله الذي هو المنتج المنفذ أيضاً، والموسيقى التصويرية لدكتورجمال سلامة وغيرهم حتى تكاد التترات تكون نسخة من الأفلام المصرية. غير أن البطولة كانت للمطرب السوداني الشهير بابن البادية.
-
إبراهيم شداد: درس السينما في ألمانيا، وسافر إلى مصر وكندا، ثم عاد إلى السودان، أخرج أفلاماً قصيرة أو متوسطة الطول لفتت الأنظار بتخليها عن الحوار وانتصارها للغة الصورة.
-
سليمان محمد إبراهيم النور: درس في معهد "غيراسيموف" للتصوير السينمائي في موسكو بالاتحاد السوفياتي السابق، أو كما يشير هو في أحد لقاءاته أنه تخرج في: "كلية الفيلم التسجيلي بموسكو"، وكان مشروع تخرجه فيلم تسجيلي بعنوان: (ولكن الأرض تدور) عن التجربة الاشتراكية في اليمن الجنوبي، حيث اعتبر أن التصوير في اليمن أسهل كثيراً من العودة إلى السودان أو التصوير في موسكو نفسها.
- منار الحلو: درس السينما في رومانيا
- الطيب مهدي: درس في المعهد العالي للسينما في القاهرة بمصر، وكان مشروع تخرجه فيلم الضريح 1977، الذي صور في مكان ما بصحراء مصر بممثلين سودانيين ونرى في التترات أسماء لسينمائيين عرب تفوقوا بعد ذلك منهم المخرج السوداني منار الحلو الذي كان مساعدا للمخرج، ومدير التصوير السوري هشام المالح.
- حسين شريف: مخرج وفنان تشكيلي ولد عام 1934 وعاش عشر سنوات في القاهرة، درس بمدرسة كلية فيكتوريا بالأسكندرية.. نفس المدرسة التي درس بها العديد من المشاهير ومنهم أمراء عرب وأوروبيين صاروا ملوكاً وفنانون أصبحوا من الرموز مثل عمر الشريف وشادي عبدالسلام، ويوسف شاهين، ومنهم السياسي والمفكر السوداني الصادق المهدي رئيس الوزراء الأسبق وحفيد القائد السوداني محمد أحمد المهدي مفجر الثورة المهدية في نهايات القرن التاسع عشر. بعد كلية فيكتوريا درس الإخراج والكتابة السينمائية والفن التشكيلي بلندن، فيلمه الأول كان (جَزْع النار) ومعناه رمي النار، حيث يتحدث عن طقس قبلي محلي يتلخص في رمي الحجارة عند شروق الشمس بعد موسم الحصاد، ثم كان فيلمه الثاني انتزاع الكهرمان الذي لاقى قبولاً جيداً في المهرجانات السينمائية الدولية التي عرض بها، ويذكر أن أواخر أيامه قضاها في منفاه الاختياري بمدينة القاهرة، حيث أنجز بالتعاون مع المخرجة التسجيلية المصرية عطيات الأبنودي فيلم مفكرة هجرة، وتوفي رحمه الله عام 2005 قبل أن يتم فيلمه الأخير (التراب والياقوت)، والذي قال عنه في لقاء تليفزيوني قبل وفاته أنه مراحل إنتاجه تخطت العامين، وأنه سافر إلى مناطق عديدة حول مصر في الوادي الجديد والصعيد والبحر الأحمر لتكون مناطق تصوير لفيلمه حيث تشبه لحد بعيد مناطق سودانية، وحتى بعض هذه المناطق داخل القاهرة وفي بعض الأماكن الأثرية، وكان الفيلم حسب قوله إعادة إنتاج سينمائي لقصائد شعرية سودانية.
- سامي الصاوي: درس السينما في لندن، يذكر دائماً له فيلم (دائر على حجر) الذي يتحدث عن مهنة حفر حجر الطاحون.
- حورية حاكم: يعتبرها الكثيرون أول سينمائية سودانية، مع الإشارة إلى أنها مولودة بالقاهرة في عين شمس عام 1950، لأب كان يعمل في سلاح الهجانة المصري، ودرست في المعهد العالي للسينما بالقاهرة وتخرجت فيه عام 1972، ثم عملت التليفزيون السوداني، لكنها ما لبثت أن غادرت السودان لتعيش وتعمل في الكويت ومصر حيث توفاها الله عام 1998م.
سينمائيون جدد:
فجأة، وفيما يبدو أنه بدون مقدمات ظهر مجموعة من السينمائيين السودانيين الجدد، بأسماء لمعت في مهرجانات دولية، وبأفلام لاقت الترحيب والتقدير لمستواها الفني الراقي، وموضوعاتها الشيقة، وأيضًا لأنها سودانية.. كاد الناس ينسون فكرة أن في السودان فن مميز.. ثلاثون عامًا من العزلة لأسباب قد يختصرها الكثيرون في نظام الحكم، وقد تكون محاولة نظام سلطوي التدثر بعباءة الدين رغبة منه في إضفاء شرعية على وجوده سببًا مهمًا لعرقلة السينما الناشئة ودفعها إلى الصفوف الخلفية، لكن الواضح أيضًا أن هذا النظام الذي قمع الحريات كان أحد أسباب العودة القوية المميزة لصناعة السينما التي تحمل توقيعات سينمائيين سودانيين أكثرهم سطوعاً مثلًا: أمجد أبو العلاء مخرج فيلم ستموت في العشرين، ومروة زين بفيلمها أوفسايد الخرطوم، وحجوج كوكا مخرج فيلم أكاشا الكوميدي الذي صور في خضم الحرب المحلية، ثم صهيب قاسم الباري الذي أعاد للأذهان صوتًا وصورة صناع سينما برعوا وأبدعوا قبل أعوام القطيعة السينمائية ثم ظلوا متمسكين بحلمهم الذي ظل حلمًا يسعون إليه ولا يدركونه.
عندما خرجت الثورة السودانية التي أطاحت بالنظام السابق (أو على الأقل خلخلته) في أواخر 2018م. كانت الأفلام السودانية الملفتة ظهرت للنور في وقت سابق من نفس العام أو على وشك الظهور، وهو ما يعني بوضوح أن الأفلام لم تكن نتاجًا للثورة، وهو ما يجعلنا نتوخى الحذر في إطلاق الآمال بشأن نهضة سينمائية سودانية في القريب العاجل، قد يحدث ذلك وهو ما نرجوه، لكن ليس علينا التوسع في الأحلام حتى نتجنب بقاءها أحلامًا كما حدث قبل ثلاثة عقود، قد يغيب عن البعض أن النظام القمعي الذي ساد في الماضي القريب كان هو نفسه السبب المباشر في مستوى الأفلام الاحترافية التي شاهدناها، فقد دفع التضييق حتمًا أجيالًا عديدة من صناع الأفلام للدراسة والإقامة والعمل في الخارج، في مصر والخليج وأوروبا وغيرها، هؤلاء لم يكتفوا بالدراسة والعودة إلى الوطن كما حدث مع الأجيال القديمة؛ لكنهم مارسوا العمل في مؤسسات إنتاج عريقة أو على الأقل غنية. احتكوا بأسواق مختلفة، واكتسبوا قدرات فنية ومادية ساعدتهم بقوة في العودة بإنتاجات تلقى القبول العالمي. نظرة سريعة على أسماء الجهات التي شاركت في الإنتاج أو مولت أو دعمت ماديًا أو حتى معنويًا أفلام الصناع الجدد ستكشف لنا بوضوح أنها سينما قادمة من الخارج أكثر منها منتمية إلى الحال السوداني، وهذا لا يعيبها؛ لكنه يجعلنا نفكر: ماذا لو لم يضغط النظام السابق ويضيق على الحريات ولم يدفع هؤلاء المواطنين السودانيين إلى الهجرة.. هل كانوا سيصبحون ما هم عليه الآن؟ هل كان السوق المحلي كفيلًا بجعلهم ينتجون أفلامًا تصل إلى العالمية؟!
السؤال الآن عن السينما السودانية: هل توجد سينما سودانية؟
الإجابة جاءت بسيطة وفي الصميم في حديث أحد رواد السينما في السودان عندما قال في لقاء تليفزيوني إن ما نحلم به سينمائيًا في السودان يتلخص في العرض، نريد إتاحة العروض السينمائية في السودان، إنشاء سوق للمشاهدة، دور سينما توازي تعداد السودانيين (مع الأخذ في الاعتبار التطورات الرهيبة في مفهوم العرض السينمائي واحتلال المنصات الإلكترونية النصيب الأكبر من سوق السينما)، هذا تحديدًا أول الطريق؛ لأنه الهدف.. كما تعلمنا أنك لتستطيع أن تعبر طريقًا طويلا مهما كان غير معبد عليك أن تنظر مباشرة إلى هدفك وسوف تصل.
وجود وسيلة للعرض محلياً تغطي تكاليف الإنتاج والأرباح معناه أنك كمنتج أفلام لن تخشى أن تخوض غمار هذا السوق، فأنت على الأقل لا تنتظرك خسائر، وكسينمائي لن يكون عليك مخاطبة ذائقة أصحاب المهرجانات أو المؤسسات الممولة على اختلاف توجهاتها، سيكون عقلك وقلبك موجه فقط ببوصلة مجتمعك الذي هو جمهورك، في هذه الحالة فقط نستطيع أن نعلن وجود سينما سودانية لأنها ستحمل ثقافة أهل السودان وهمومهم وتطلعاتهم أيًا ما يكون القالب الذي تتخذه، وللملاحظة ليس وجود سينما كهذه بالأمر الهين، حتى أن معظم المنتجات السينمائية العربية (باستثناء المصرية إلى حد ما) لم تصل أن تمثل مجتمعاتها، قد تكون هناك أفلام جيدة الصنع، أفلام ضخمة التمويل، أفلام تنافس في المهرجانات، لكن ذلك لا يعني وجود صناعة سينما يمكن أن يلحق بها اسم شعب عربي ما على أنه محققها وأنها تنتمي إليه.
أحمد صلاح الدين طه
الخميس 11 مارس 2021
الواقع أن إجابة السؤال تأخذنا إلى تحليله إلى عدة تساؤلات: أولاً عن وجود السينما في السودان، وثانياً عن صناع السينما السودانيين، وثالثاً وأخيراً نصل إلى التساؤل الأشمل عن وجود سينما سودانية.
قد لا يكون صعباً على السودان، مثلها في ذلك مثل مختلف الدول العربية -وربما جميع العالم أيضاً- أن تحتفي بمرور مائة عام على السينما في السودان.. نعم دخلت السينما إلى السودان قبل أكثر من مائة عام، وهي معلومة صحيحة، لكنها معلومة احتفالية مضللة إلى حد بعيد؛ مثلها كما يحدث عندما نحتفي في مصر بمائة عام من السينما مرات عديدة: مرة بمرور مائة عام على أول عرض سينمائي في مصر عام 1896، ومرة بمرور مائة عام على إنشاء أول دار عرض في مصر 1897، ومن حينها نجد سبباً للاحتفال بمائة عام على السينما كل فترة مع أول تصوير سينمائي، وأول شريط توثيقي، وأول تصوير روائي أو ذي طابع تمثيلي وهكذا.. مثلنا في ذلك مثلما قد تحتفي السعودية مثلاً بأول فيلم تم تصويره عن الحج، كعلامة في تاريخ السينما السعودية وهو في الواقع فيلم من إنتاج استوديو مصر، أو أقدم لقطات عن الحج وهي لمصور أوروبي جاء مع بعثة حج أندونيسية أو ماليزية، كما يهتم السينمائيون الفلسطينيون برائدي السينما الفلسطينيين إبراهام وبدرو لاما (أو إبراهيم وبدر لاما) ذوي الأصول الفلسطينية الذين ولدا في تشيلي ثم عاشا وأنتجا ومثلا وأخرجا أفلامهما بمصر، أي أنهما يعدان في نفس الوقت رواداً للسينما المصرية.
وهكذا يجد البعض سبباً للاحتفاء بمرور أكثر من مائة عام على السينما في السودان حيث قام مغامر سويسري بتصوير فيلم عن رحلة صيد قام بها عام 1910، وعرض هذا الفيلم في ظروف غير واضحة تماماً: هل كان عرضاً عاماً أو محدوداً أو خاصاً بأصدقائه مثلاً، لكنه تم في مدينة الأبيض عاصمة ولاية شمال كردفان عام 1912، وهذا سبب كاف للتأريخ للوجود السينمائي على أرض السودان، حتى لو لم يكن لهذا الوجود وقع حقيقي في حياة السودانيين الذين ربما لم يتح إلا لفئة محدودة جداً منهم مشاهدة هذا العرض.
بعد سنوات من هذه الواقعة أنشئت أول دار عرض للسينما الصامتة عام 1924، ثم أول دار عرض للسينما الناطقة 1930، ثم شركة السينما السودانية 1940 والتي أنتجت بالتعاون مع شركة مصر للتمثيل والسينما أفلاماً غنائية قصيرة (فيديوكليبات بلغة أيامنا هذه) لمطربين سودانيين. ثم أنشأت الإدارة البريطانية وحدة أفلام السودان 1949 لإنتاج أفلام تسجيلية وتعليمية، واستمر الوجود السينمائي عبر نقاط مضيئة متقطعة طوال السنوات التالية وعبر كثير من المتغيرات السياسية والاجتماعية التي من المؤكد أثرت على السينما في السودان كما أثرت على كل مناحي الحياة الأخرى، وصل عدد دور العرض السينمائي في السودان في أفضل الحالات إلى 67 دار عرض، وتقلص في أحلك الفترات إلى 7 دور عرض فقط كانت تعرض الأفلام الهندية للعمال الهنود، وللغرابة كان القانون يمنع إطفاء الأنوار أثناء العرض، وهي الحالة - فيما نعرف- الوحيدة في العالم التي يقدم فيها عرض ضوئي وسط الأضواء بقانون ملزم.
من الأفلام الهامة في تاريخ السينما في السودان فيلم آمال وأحلام عام 1970 الذي يعد أول فيلم سوداني، وفيلم عرس الزين 1976 الذي هو فيلم كويتي وسوداني في نفس الوقت، كويتي لأن مخرجه ومنتجه خالد الصديق كويتي، وسوداني لأنه مأخوذ عن رواية للأديب السوداني الكبير الطيب صالح، وتدور أحداثها في السودان.
قد لا نعرف بالإضافة للفيلمين السابقين إلا خمسة أفلام طويلة أخرى: فيلمي (تاجوج) و(بركة الشيخ) لجاد الله جبارة الذي بدأ إخراج فيلم آخر عن رواية البؤساء لفيكتور هوجو وأتمته ابنته سارة جبارة بعد أن توفاه الله، و(رحلة عيون) لأنور هاشم و(يبقى الأمل) لعبدالرحمن محمد عبدالرحمن، بالإضافة طبعاً لأفلام قصيرة والعديد من الأفلام التسجيلية التي كانت الهدف الأساسي لإنشاء وحدات الإنتاج السينمائي الرسمية في السودان.
قصة فيلم آمال وأحلام بين الإنجاز والواقع:
قد تكون قصة إنتاج أول فيلم سوداني طويل ملهمة إلى حد بعيد ودرامية إلى حد أبعد، منذ نشأة مصوره ومنتجه الرشيد مهدي الذي بدأ محترفاً عمل النجارة الذي درسه وتخصص فيه، ثم هوايته للتصوير الفوتوغرافي الذي قاده ليكون رائداً في مجال احتراف الفوتوغرافيا، حيث صنع أول كاميرا استخدمها من الخشب تضم معمل تحميض داخل الكاميرا، ثم أنشأ أول استوديو تصوير في منطقة عطبرة، وكان رائداً أيضاً في مجال الطباعة بإنشاء أول مطبعة في المنطقة، وأيضاً رائداً في مجال الإنتاج السينمائي حيث كان أول سوداني ينتج ويصور فيلماً روائياً طويلاً، وهو فيلم آمال وأحلام الذي قالت بطلته ليلى جوقا أن الرشيد مهدي كان يصرف من جيبه بسخاء على إقامة وتنقلات وطعام الفريق طوال مدة التصوير.
بذل الجميع جهداً كبيراً استمر قرابة ثماني سنوات منذ 1962 وحتى 1970 عام خروج الفيلم للنور، عرض الفيلم في دار سينما أم درمان الوطنية، بعد أن تم تحميضه بمعامل دوناتو بميلانو الإيطالية، وبعد أن مر بمقص الرقيب في الخرطوم الذي اقتطع فيما يقال نصف مدته حيث كان طول الفيلم ثلاث ساعات، استطاع الرشيد مهدي تعويض المدة المقتطعة بإضافة أغان واستعراضات، وحقق الفيلم نجاحاً كبيراً، وتم عرضه في المدن السودانية، ومنح الرشيد أرضاً لينشئ عليها أول استوديو سينمائي بمنطقة عطبرة، واستورد له معدات تصوير ومونتاج وطبع وعرض من إيطاليا، لكن ذلك لم يعن إنتاج أي فيلم روائي طويل يذكر بعد ذلك بواسطة الرشيد مهدي، وتفرق صناع الفيلم بعد ذلك كل في عالمه، حتى أن بطلة الفيلم ليلى حسين الشهيرة باسم ليلى جوقا أصبحت تجلس بقدرة فول في أحد الأسواق تبيع الفطور لرواد السوق وكفى.
فيلم آمال وأحلام كتبه الدكتور هشام عباس، وأخرجه إبراهيم ملاسي، تم تصويره بكاميرا 16مم بدون صوت ثم تم تسجيل الصوت بأسلوب الدوبلاج.
لم يترك جادالله جبارة الكاميرا من يده حتى وافته المنية كما تقول ابنته سارة التي كانت عينه التي أخرج من خلالها فيلمه الأخير البؤساء، والذي عمل عليه بعد أن فقد بصره، فكان يتخيل وتنفذ هي، وبعد أن توفي قبل أن يتم الفيلم أتمته هي، كما ورثت شغفه بالسينما مع كم ضخم من أشرطة السليلويد والصور التي تواصل سعيها مع جهات عالمية لحفظ هذا التراث وترميمه ورقمنته، كما تتنقل به كما روت في أحد اللقاءات لأن على الشباب ومن حقهم أن يروا كيف كانت السودان.
مع ذلك يمكننا استبيان مجموعة من الأسماء التي لمعت كومضات برق في تاريخ السينما في السودان مثل:
كمال محمد إبراهيم: يعتبرونه شيخ السينمئيين السودانيين، والأب الشرعي للسينما في السودان، فقد كان أول المبادرين لتأسيس وحدة أفلام السودان التي أسستها الإدارة البريطانية بناء على مذكرة كتبها، ثم كان أول من عمل كمخرج وكاتب سينمائي وأول من قدم فيلما قصيراً هو فيلم (طفولة مشردة)، ثم فيلماً آخر هو فيلم (المنكوب)، كما ألف كتاباً عن تاريخ السينما في السودان.
الرشيد مهدي: رائد السينما السودانية، مصور، ومنتج، غامر بإنتاج أول فيلم روائي طويل يعتد به في تاريخ السينما السودانية، فيلم (آمال وأحلام).
جادالله جبارة: واحد من الرواد الكبار، صانع سينما ومؤسس لصناعة للأسف حالت الظروف السياسية والاقتصادية والاجتماعية دون اكتمالها، لكن ذلك لا يقلل أبداً من إسهامه، سعى وتعلم، وساهم في الكيان الرسمي لصناعة السينما في السودان، كما أسس استوديو جاد ككيان مستقل قدم من خلاله كماً ضخماً من الأفلام الوثائقية، والأشرطة التوثيقية، وفيلمين طويلين يعتد بهما في إطار الصناعة السينمائية المتقنة هما فيلمي: (تاجوج)، و(بركة الشيخ). وكان هناك مشروع سينمائي ثالث وهو فيلم عن رواية البؤساء لفيكتور هوجو استمر عمله فيه حتى وفاته رغم إصابته بفقد البصر لكنه لم يتخل عن حلمه، الذي أكملته ابنته سارة جبارة بعد وفاته.
إبراهيم شداد: درس السينما في ألمانيا، وسافر إلى مصر وكندا، ثم عاد إلى السودان، أخرج أفلاماً قصيرة أو متوسطة الطول لفتت الأنظار بتخليها عن الحوار وانتصارها للغة الصورة.
سليمان محمد إبراهيم النور: درس في معهد "غيراسيموف" للتصوير السينمائي في موسكو بالاتحاد السوفياتي السابق، أو كما يشير هو في أحد لقاءاته أنه تخرج في: "كلية الفيلم التسجيلي بموسكو"، وكان مشروع تخرجه فيلم تسجيلي بعنوان: (ولكن الأرض تدور) عن التجربة الاشتراكية في اليمن الجنوبي، حيث اعتبر أن التصوير في اليمن أسهل كثيراً من العودة إلى السودان أو التصوير في موسكو نفسها.
عندما خرجت الثورة السودانية التي أطاحت بالنظام السابق (أو على الأقل خلخلته) في أواخر 2018م. كانت الأفلام السودانية الملفتة ظهرت للنور في وقت سابق من نفس العام أو على وشك الظهور، وهو ما يعني بوضوح أن الأفلام لم تكن نتاجًا للثورة، وهو ما يجعلنا نتوخى الحذر في إطلاق الآمال بشأن نهضة سينمائية سودانية في القريب العاجل، قد يحدث ذلك وهو ما نرجوه، لكن ليس علينا التوسع في الأحلام حتى نتجنب بقاءها أحلامًا كما حدث قبل ثلاثة عقود، قد يغيب عن البعض أن النظام القمعي الذي ساد في الماضي القريب كان هو نفسه السبب المباشر في مستوى الأفلام الاحترافية التي شاهدناها، فقد دفع التضييق حتمًا أجيالًا عديدة من صناع الأفلام للدراسة والإقامة والعمل في الخارج، في مصر والخليج وأوروبا وغيرها، هؤلاء لم يكتفوا بالدراسة والعودة إلى الوطن كما حدث مع الأجيال القديمة؛ لكنهم مارسوا العمل في مؤسسات إنتاج عريقة أو على الأقل غنية. احتكوا بأسواق مختلفة، واكتسبوا قدرات فنية ومادية ساعدتهم بقوة في العودة بإنتاجات تلقى القبول العالمي. نظرة سريعة على أسماء الجهات التي شاركت في الإنتاج أو مولت أو دعمت ماديًا أو حتى معنويًا أفلام الصناع الجدد ستكشف لنا بوضوح أنها سينما قادمة من الخارج أكثر منها منتمية إلى الحال السوداني، وهذا لا يعيبها؛ لكنه يجعلنا نفكر: ماذا لو لم يضغط النظام السابق ويضيق على الحريات ولم يدفع هؤلاء المواطنين السودانيين إلى الهجرة.. هل كانوا سيصبحون ما هم عليه الآن؟ هل كان السوق المحلي كفيلًا بجعلهم ينتجون أفلامًا تصل إلى العالمية؟!
وجود وسيلة للعرض محلياً تغطي تكاليف الإنتاج والأرباح معناه أنك كمنتج أفلام لن تخشى أن تخوض غمار هذا السوق، فأنت على الأقل لا تنتظرك خسائر، وكسينمائي لن يكون عليك مخاطبة ذائقة أصحاب المهرجانات أو المؤسسات الممولة على اختلاف توجهاتها، سيكون عقلك وقلبك موجه فقط ببوصلة مجتمعك الذي هو جمهورك، في هذه الحالة فقط نستطيع أن نعلن وجود سينما سودانية لأنها ستحمل ثقافة أهل السودان وهمومهم وتطلعاتهم أيًا ما يكون القالب الذي تتخذه، وللملاحظة ليس وجود سينما كهذه بالأمر الهين، حتى أن معظم المنتجات السينمائية العربية (باستثناء المصرية إلى حد ما) لم تصل أن تمثل مجتمعاتها، قد تكون هناك أفلام جيدة الصنع، أفلام ضخمة التمويل، أفلام تنافس في المهرجانات، لكن ذلك لا يعني وجود صناعة سينما يمكن أن يلحق بها اسم شعب عربي ما على أنه محققها وأنها تنتمي إليه.