وظائف خالية

الفيلم القصير ملح البحر.. التماهي بين الواقعي والمتخيل الساندوتش الذي كان مؤهلا لدور البطولة في فيلم عطيات الأبنودي
Total online: 2
Guests: 2
Users: 0
فيلم Ride Share الرعب تخلقه الحياة العادية

 Sea Salt ملح البحر Leila Basma
 
  مساحة للالتباس الموجه، المقصود، بين الواقع والحلم.. الواقعي والمتخيل، تستدرجنا إليه صانعة الفيلم اللبنانية الشابة ليلى بسمة من خلال مفتتح تأملي.. فتاة في مقتبل العمر تطفو فوق الماء بلباس بحر أحمر.. كاشفٌ لكنه ليس مثيرًا، مثل البحر الذي تعوم فيه؛ شفافيته عالية لكنه ضحل، تنعكس عليه سماوية العُلَىِ لكن صورة أعشاب البحر وصخوره تتخلله فتكشف حقيقته.. واقعٌ هادئٌ مثالي، لكننا نكتشف أنه حلم، نفيق منه مع البطلة على صوت أذان الفجر لنكتشف واقعًا آخر أكثر واقعية، فتبدأ القصة في الانجلاء والقضية في التجلي.

  قصة بسيطة: مراهقة لبنانية تحب شابًا ومن أجله ترفض الهجرة بصحبة أخيها إلى كندا. في الواقع هي لا ترفض، لكنها محتارة في اتخاذ القرار بين البقاء في بلدها، حيث الحب والوطن والسكن، أو المغادرة إلى المهجر حيث المستقبل الأفضل والأمل في وطن جديد بلا مشاكل. حيرتها تدفعها للكذب على أخيها عندما يسألها عن سبب معارضتها: "كِرْمَا لشَبّ!!"، فتجيبه ببراءة لا تدرك أنها حقيقية رغم زيف الإجابة: "لا مش كِرْمَا لشَبّ".

  ربما لا تريد أن تعترف لنفسها أنها منقادة، دائمًا هناك من يقود خطواتها. عندما لم يتمكن الأب من إيصالها إلى محل عملها، بادر أخوها إلى أخذها معه (في طريقه)، وبينما يخطط الأخ مستقبلها فيقرر أن حلمها بالالتحاق بالجامعة في بيروت، وبيروت نفسها لا تناسبها، "بيروت مش إلِك؛ كلها سهر وفلتان" على حد قوله، يقرر حبيبها ذو الملامح الحيادية الأميل إلى الحدة أن "كندا مش إلها" وأنها: "She wants to discover Beirut". يتداول أصدقاؤها الحوار والجدل حول الأنسب بالنسبة لها، دون أن تتدخل هي في الحوار -المفترض أنه يخصها- إلا بتوزيع الابتسامات، وطلب سيجارة وتلقي قبلات صديقها الذي يحاول بجفاء ترديد أفكار قد تؤثر على قرارها. تقوم صديقتها المشاركة في الجدل وتسحبها من يدها لتقفز معها في الماء، والبحر بوابة يسحبنا السرد من خلالها إلى أجواء فانتازية، أشبه بالحلم حيث يسحبها صديقها عبر ممر تشاهد فيه نفس الشخصيات التي مرت بالبطلة خلال يومها الواقعي: مديرها في الكافيتيريا المطلة على البحر التي تعمل فيها يمارس عمله بتجهيز المشروبات خلف البار، والدها ووالدتها يتجادلان كالعادة وهما يمارسان أعمالًا منزلية، الأم تُعدّ الطعام بينما الأب يصلح سباكة حوض المطبخ ويعد الأم بأن يصحبها إلى كندا بمجرد أن يتدبر الأبناءُ أمورَهم، خادمتهم الإفريقية تبتسم لها ابتسامة ذات مغزى كتلك الابتسامة التي ظهرت على وجهها في الصباح وهي ترمق الشورت القصير الذي شرعت البطلة في الخروج به واعترض أخوها عليه قائلا: "أنا وأصحابي بنتكلم ع البنات اللي بتلبس هيك". الخادمة تبدو أكثر غنجًا ومرحًا وترمح لتغيب في ممر مضاء بالأحمر الدافئ في إشارة حسية قد لا تغيب عن أحد، ثم صاحبتها التي أخذتها من يدها مندمجة في علاقة حميمة مع صديقهم الآخر، وأخيرًا بعد عبور هذه المشاهد اليومية الواقعية مجتمعة بقوة الفانتازيا اللاواقعية، تصل إلى باب غرفة مضاءة بنفس اللون الأحمر، بمجرد أن تدلف ينقطع الصوت وتتوقف الموسيقى ويبدو المشهد أكثر واقعية رغم احتفاظه بنفس المنظومة اللونية للمشهد السابق: الضوء الأحمر الساخن من داخل الغرفة والضوء الأزرق السماوي البارد قادم من الخارج، وتغيب البطلة مع صديقها في علاقة حميمة خلال أطول مشاهد الفيلم، خلالها تتنوع العلاقة اللونية وتتبدل فتبدأ بسيادة الأحمر مضيئًا وجه البطلة وجسدها ويملأ الأزرق الظلال ثم تحدث جدلية لونية خلال الاندماج بين العشيقين قبل أن ينتهي الأمر بسيادة الأزرق البارد.

  ينتهي الفيلم نهاية مفتوحة تجعلنا لا ندرك تمامًا إلام انتهت القصة وما الحقيقي فيها وما الوهمي، هل مرت الفتاة بتلك العلاقة حقًا أم عاشتها في خيالها. تتوالى لقطة للصديق نائمًا وحده على سرير ولقطة تأملية طويلة نسبيًا للفتاة تخرج من الماء، ثم لقطة للأخ يعود بسيارته ليصطحبها من مكان عملها فيتلفت حوله باحثًا عنها دون أن نرى أنه وجدها، ولقطة طويلة للبحر تنزل عليه التترات، الكل ينتظر الفتى النائم والفتاة الطافية على الماء والأخ، بل والبحر نفسه في حالة انتظار، دون أن تُحسم القضية أو يُسمح للقصة أن تنتهي.

  يمكننا بسهولة استجلاء علامات محددة، رموزًا تقود السرد ويمكن اتخاذها خيوطًا نستطيع بتتبعها فك عقدته وفهم مسراه، أول الخيوط في العنوان: (مِلح البحر)، والذي يحيلنا إلى مفهوم آخر: (مِلح الأرض)، وهو تعبير شاع في الأدب الغربي بل وعند بعض المثقفين العرب مقتبسينه من حديث منسوب إلى سيدنا المسيح عيسى بن مريم عليه السلام في عظة الجبل، كما ورد في الكتاب المقدس(متى5:13 عندما يخاطب حوارييه قائلًا: "أنتم ملح الأرض"، وتبدو العبارة إطراء لهم، فهي تعني أنهم كالملح للطعام. قليل.. نعم، لكن دونه يقع الفساد: القليل يحفظ الكثير، والبعض يُصلح الكل. في جملة المسيح التي تلي ذلك يتحول الحديث إلى القسوة عندما يقول عليه السلام: "ولكن إذا فسد الملح فبماذا يُملَّح؟ لا يصلح بعدُ لشيءٍ إلا لأن يطرح خارجًا ويداس من الناس". فملح الأرض هم هؤلاء الذين يحملون على عواتقهم حفظ الآخرين. مسؤولية ثقيلة حملت عليهم، لو لم يكونوا أكْفَاء لحملها فليس أمامهم إلا أن يداسوا من الناس، ولا خيارات أخرى، فهم عندها يكونون كالملح الفاسد يطرح خارجًا. وكما أن للأرض ملحًا، فالبحر هو مصدر الملح، مما يكسبه خاصة معالجة الجروح كما تقول إحداهن لبطلة الفيلم: "ملح البحر منيح علشان الدم". الدم هو علامة أخرى يقودنا إليها السرد.

  الفتاة التي تقول هذه النصيحة للبطلة، كنا قبل قليل رأينا صورتها على هاتف الأخ الذي كان يقلب صور فتيات بدا أنه يبحث بينهن عن شريكة العمر، أي أنها مرشحة لتكون إحدى أفراد العائلة، والعائلة يربطها الدم.

    الدم ظاهر في الفيلم من خلال السرد البصري، يظهر بدءًا من أول الفيلم بلونه من خلال لباس بحر أحمر ترتديه البطلة في الحلم الذي تبدأ من خلاله علاقتنا ببطلة الفيلم وأزمتها. الدم له معانٍ عديدة في ذاكرة الإنسان، فالدم صلة بالأرض، والدم أخُـوّة. الدم جرح والدم شرف، الدم كل شيء يربطنا بالأرض والوطن.

  يقدم السرد علاقة خاصة بين الدم والبحر، فكما أن ملح البحر جيد (منيح) للدم، فهو جيد للاستشفاء، يغسل الهموم. البحر يعني النجاة المحتملة والعودة الممكنة والغموض المؤكد. المخرجة تستغل هذه العلاقة بين الدم والبحر لتجعلها وسيلة انتقال مونتاجية، فاصل بين المَشاهد، كلما رأينا الدم يمتزج بالبحر عرفنا أن ثمة انتقال بين الواقعي والمتخيل، ولم يكن ذلك من خلال تكرار لقطة واحدة بل بصور مختلفة. في أول الفيلم نرى اللون الأحمر للباس البحر طافيًا فوق ماء البحر فنعرف أننا في حلم كلما اختلط الأحمر بالأزرق.. الدم بماء البحر المالح. أحيانًا نجد لقطة للدم شفيفا ينتشر ويمتزج بالماء، وأحيانًا نرى كتلة دم كثيفة داكنة بين الماء دون أن تمازجه، وفي مشهد العشق نجد لعبة الضوء الأحمر والأزرق فنقع في حيرة وتساؤل عن كون اللحظة واقعية أم متخيلة.

  تراك الصوت أسهم ببراعة في الانتقال بين عوالم الفيلم المختلفة، ارتبطت الموسيقى بمشاهد الحلم والبحر، تتصاعد وتتمازج مع صوت الماء ثم تنتهي عندما يخرج السرد من الحلم/البحر إلى أرض الواقع. عندما تقفز البطلة بصحبة صديقتها في البحر نسمع الموسيقى المتصاعدة وصوت الأمواج وعندما تصاحب البطلة حبيبها نعرف أنهم يسيرون في ممر وهمي من خلال استمرار نفس المنظومة الصوتية، أما عندما يُغلَق باب الغرفة عليهما نفاجأ بمنظومة صوتية أكثر واقعية.

  تماهي الواقعي والمتخيَل يجعل المشاهد غالبًا يغفل أو يتسامح مع تفاصيل يفترض أن تكون واقعية أو تأتي في تسلسل منطقي، مثلًا: البطلة التي تستيقظ دون أن يدفعها دافع سوى صوت أذان الفجر. تذهب دون أن يضغط عليها أحد لتتوضأ وتصلي، ثم نجدها خلال يومها تندفع بعزم إلى ممارسة علاقة محرمة مع شاب لا تربطه بها أي علاقة شرعية وكأن الأمر عادي، كيف يمكن أن تقبل أذهاننا تديُّنَها الذي لا يبدو تظاهرًا ولا يمكن أن يكون نفاقًا لأن لا أحد يراها عندما تصلي. ثم نتقبل هذه العلاقة التي تنغمر فيها وتحرص عليها. هل فعلت أم تخيلت؟ لا يجيبنا الفيلم بحسم لكنه يعطي إشارات تُغلب فكرة الحلم.

 أيضًا، بينما يتبادل العاشقان حديثًا نفهم منه أن لكليهما (خبرات) سابقة؛ نكتشف مع البطلة دمًا على ملاءة السرير يُغلِّب كونها تفعل ذلك للمرة الأولى، لكنها في لقطة تالية تتأمل الدم نصف المتجلط من جرح أصاب الفتاة أول اليوم، وتبتسم كأن صانعة الفيلم تهدف إلى تشويش الفكرة لترك المتلقي تائها في حالة برزخية بين الواقع والخيال.

  تفاصيل أخرى ربما أقل أهمية نتغاضى عن لامنطقيتها وكسرها للتسلسل السردي بسبب مساحة اللاواقعية التي نعيشها في الفيلم مثل المبالغة في حجم الجرح الناتج عن عملية العناية الشخصية، ثم ارتداء البطلة لشورت قصير رغم علمها بحدوث جرح كهذا، ثم مبادرتها -بعد توجيه أخيها لها- إلى ارتداء سروال طويل، صحيح أنه ضيق للغاية لكنه بالتأكيد لا يشبه الشورت. عندما تصل إلى عملها نجدها ترتدي الشورت نفسه الذي لا يفترض أنها خرجت به والذي استلزم السرد أن ترتديه لأن الفتاة التي تلتقيها في الكافيتيريا سيلفت نظرها أن هناك دمًا على فخذ البطلة وأن ملح البحر قد يشفي الجروح، الجملة الحوارية هنا محورية وارتداء البطلة لسروال طويل يجعل الحديث لا معنى له، ومن ثم تغاضت صانعة الفيلم عن التسلسل المنطقي لتصل إلى هدفها بشكل مباشر.

  الجنس سلاح ذو ألف حد وحد، وربما أكثر من ذلك، فكما أنه أداة يميل الشباب للتعبير من خلالها، ويدمن المخرجون العرب تحديدًا اللجوء إليه والإغراق فيه، كنموذج لدينا المخرج الفرنسي من أصل تونسي (عبد اللطيف كشيش) صاحب ما وصف بأنه أطول مشهد جنسي في السينما في فيلمه (Blue Is the Warmest Colour) 2013م. كذلك شرعت ليلى بسمة في جعل مشهد العشق أطول مشاهد فيلمها على الإطلاق مما قد يجعل الفيلم يحيد عن قضيته ويدفع المتلقي للاهتمام بما قد يقدمه الفيلم له من متعة جنسية بدلا من الاهتمام بمحتواه القصصي أو ما يقدمه من جماليات بصرية لا شك في روعتها، ولا شك أنها كانت الشغل الشاغل للمخرجة التي قررت أن تصور الفيلم بخام سينمائي 16مم وهو اختيار يلفت النظر للاهتمام بالتجربة الجمالية في عصر ساد فيه الإنتاج الرقمي.. لكن دائمًا إذا نافست الغريزةَ الجمالَ في الفن كان النصر للغريزة، وهنا أذكر دائمًا تجربة شخصية عشتها عندما قررت أن أدخل إحدى قاعات العرض في الصعيد قام أحد المستثمرين بتجديدها بعد إغلاقها لعشرات السنوات وحوّلها إلى دار عرض شعبية (ترسو في غير زمن الترسو)، وفي هذه القاعة اكتشفت أن أحدهم قام بتجميع المشاهد الإباحية من الأفلام المصرية واللبنانية والتركية القديمة، وصنع منها برنامجًا كاملا يصل إلى ثلاث ساعات لا تقل انحطاطًا عن أي فيلم بورنو، وكان نصيب كبير من مشاهد هذا العرض مُقتصًا من أفلام المخرج الراحل الكبير صلاح أبو سيف (غفر الله له)، والذي طالما ذكر، بسعادة طفولية كفنان كبير، كيف وظف هذه المشاهد ليشوش نظر الرقباء عن المحتوى السياسي والفكري لأفلامه، والواقع أنه لو كان رأى أفلامه يُفعل بها ذلك لأصابه الغم والنكد حيث توارت تجربته السياسية وتوجهاته الفكرية وبقي من أفلامه فقط ما حذفت الرقابة أكثره يومًا، لذلك لا ننصح أي صانع أفلام في مقتبل حياته بالإفراط في هذا الجانب، رغم أنه سيجد تصفيقًا حارًا من الكثيرين، وستصبح أفلامه أكثر شعبية.. لكنه يذبح تجربته الجمالية من حيث لا يدري.
  ملح البحر هو تجربة جمالية مميزة، استطاعت ليلى بسمة من خلالها أن تكشف لنا موهبة تَعد بالكثير من النجاحات القادمة.

أحمد صلاح الدين طه
الأحد 7 يوليو 2024
dedalum.info@gmail.com
 

Sea Salt ملح البحر Leila Basma


Sea Salt ملح البحر Leila Basma



Sea Salt ملح البحر Leila Basma



Sea Salt ملح البحر Leila Basma

avatar

الأعضاء المٌسجلون فقط يٌمكنهم إضافة تعليقات
[ التسجيل | دخول ]
 

لنشر مقالك هنا.. اضغط اللنك 


إذا لم تكن عضواً في ديدالوم سجل الآن، اضغط هناااا

 
    أضف خبرًا فنيًا         أكتب مقالا على ديدالوم