"إنهم قادمون الليلة".. القلق في غير محله: فيلم قصير يستكشف مخاوفنا العميقة بذكاء صادم
بقلم: أحمد صلاح الدين طه
21 Apr 2025
فتيات الرنجة.. أن تكوني سمكة بين فتيات عملهن تقطيع الأسماك
Total online: 1 Guests: 1 Users: 0
عبد العزيز النص وحكاية النشالين على الشاشة بين أحمد أمين وأحمد حلمي
في السينما -عادة- ما تكون الإجابات السهلة، والرؤى الواضحة الجلية مضللة، باستثناء أفلام الهواة؛ لأن أهل الدراما يضعون نقاط تحول صادمة.. بقدر ما تبدو عليه البدايات من انكشاف يجب أن يأتي التحول أو ال(تويست) عنيفًا، وهذا ما اعتمد عليه صانع الفيلم الأمريكي الشاب (جون بونر John Bonner) مؤلف ومخرج الفيلم القصير (إنهم قادمون الليلة They're Coming Tonight) عندما أسس مجموعة من التصورات ونماها في ذهن المشاهد ليصدمه بنهاية غير متوقعة.
فيلم They're Coming Tonight يتناول قصة زوجين، متآلفين، شديدي الرقة في علاقتهما معًا، كأنهما خارجين توا من فيلم رومانسي قديم. لكنهما يواجهان قلقًا وجوديًا يهددهما؛ إنه الآخرون. الزوج القادم توًا من الخارج يصارح شريكته: "إنهم قادمون الليلة"، لا يشير الحوار إلى كنه القادمين، من هم؟ ماذا يريدون؟ ما الذي يدفعهم لتتبع هذين الزوجين، وما الخطر الذي يمثله قدومهم؟
أسئلة لا إجابات لها مما يشكل مزيدًا من القلق، ويكون على الزوجين أن يستعدا، يحضِّرا نفسيهما بخطة تساعدهما على تجاوز محنتهما؛ يبدآن في إعداد المنزل يغلقان الأبواب ويتأكدان من غلق جميع المتاريس (رغم أن النوافذ الزجاجية تترك ثغرة لن تُسد) وترتدي الزوجة فستانًا وباروكة ذات شعر أشقر!
تجيء اللحظة الحاسمة، وتواجه الزوجة بمظهرها الجديد الغرباء الذين يقفون إزاءها بأزياهم العجيبة التي تخفي أجسادهم ووجوههم تمامًا وتضفي على مظهرهم نوعًا من الغرائبية كأنهم عفاريت أو فضائيون أو فقط أناس متخفون في زي خاص. الزوجة تواجههم بثبات محاولة إخفاء قلقها، والزوج مختبئ قريبًا منها حاملًا في يده سكينًا لا يبدو أنه كفيل بحل الصراع مع هذه الكتيبة من الغرباء الذين يبدو من الواضح أنهم يبحثون عن امرأة معينة لأنهم لم يلتفتوا مطلقًا لوجود الرجل.
تنطلي الخدعة على القادمين الذين يحملون رسمًا يوضح ملامح المرأة التي يبحثون عنها والتي ليست شقراء كما تظهر أمامهم، وإن كان المشاهد يدرك الآن بعد مشاهدة لقطة مقربة للرسم في أيديهم أنها هي نفسها تلك المرأة؛ يغادرون في هدوء وينتصر الزوجان على مخاوفهما، يحتفلان بنجاتهما..
هل هذه النهاية؟
أبدًا هنا نقطة التحول التي تهدم كل توقعاتنا وتغير كل المفاهيم التي بنيناها طوال مدة الفيلم.
يعتمد صانع الفيلم على تلك الأداة السردية التي تحدثت من قبل عن أهميتها للغاية بالنسبة للأفلام القصيرة، والتي -وإن وجدت- في الأفلام الطويلة أيضًا لا يصبح وجودها بنفس الأهمية، ألا وهي (خاصية الانفتاح) التي تعني باختصار تشعع النقاط السردية (أو تشجرها أو تفرعها) على خط السرد بحيث يمكن للمدة الزمنية القصيرة التي ينحصر الفيلم خلالها من أن تحوي الكثير والكثير من المعاني والأحداث والتفصيلات التي لا يضطر صانع الفيلم لذكرها وإنما يعتمد على المشاهد وقدرته على استدعاء التفاصيل من الذاكرة الجمعية للبشر عامة أو لجماعة ثقافية محددة.
بداية؛ توظيف الصورة بالأبيض والأسود تفتح ذاكرة المشاهد على تاريخ طويل من كلاسيكيات السينما، وإذا أضفنا المظهر العام للديكور والملابس وطريقة أداء الممثلين وحتى تصفيف الشعر أو باروكة البطلة واسم البطلة (إنجريد) والموسيقى التصويرية، كل ذلك يذكرك مباشرة بأفلام الرعب القديمة، لقد كان سهلا على كثيرين ممن شاهدوا الفيلم على اليوتيوب (حسب تعليقاتهم) أن تستدعي أذهانهم على الأقل فيلم رعب كلاسيكي هو (ليلة الموتى الأحياء Night of the Living Dead) ١٩٦٨م.، وأنا عن نفسي ترن في أذني عبارة من هذا الفيلم تبدأ عندها أحداثه المفجعة التي تنتهي كالتراجيديات الشكسبيرية بموت جميع الأبطال، حيث يصيح الأخ (غير المؤمن) لاهيًا مع أخته (الطيبة) أمام قبر أبيه: "They're coming for you Barbra إنهم قادمون من أجلك باربرا"، وطبعًا كما يقول المثل عندنا في مصر: "يا قاعدين يكفيكم شر الجايين"؛ فمع نهاية العبارة يظهر أول شخص من الموتى الأحياء فيقتل الأخ اللاهي ويطارد الأخت هو ومن معه من جماعات الزومبي.
أيضًا تذكر التعليقات مسلسلًا قديمًا شهيرًا أيضًا وهو مسلسل (منطقة الشفق The Twilight Zone) وهذا المسلسل يتناول قصصًا منفصلة عن أناس عاديين يجدون أنفسهم فجأة في ظروف غير عادية، على سبيل المثال في الحلقة الأولى يقضي انفجار غامض على جميع السكان في مدينة وينجو منه شخص وحيد هو محاسب بأحد البنوك كان هاربًا من صخب مجتمعه، مختبئًا للحظات داخل خزينة البنك شديدة التأمين ضد الانفجار، خرج منها ليجد نفسه وحيدًا في المدينة، وهكذا كان موضوع حلقات المسلسل جميعها يتناول قلق الإنسان، خوفه ليس من الموت؛ لكن من ألم البقاء وحيدًا.
نفس عنوان الفيلم (They're coming tonight) يفتح ذاكرة المشاهد على كم كبير من الأفلام التي حملت نفس الإشارة بشكل مباشر أو ضمني إلى قادمين غرباء بحلولهم تنقلب حياة القاطنين رأسًا على عقب سواء كان القادمون من عالم الأشباح الذي يخاطب مخاوف ذوي التفكير الخرافي أو الغيبي مثل فيلم (They're Coming to Get You)، وربما يكون القادمون من عالم الفضاء في الأفلام التي تخاطب مخاوف المستقبليين وقلقهم الدائم من وضع الإنسان على الأرض وأهميته في الوجود. أيضًا قد يكون القادمون فقط هم الأعداء كما في الفيلم الشهير (الروس قادمون) الذي يخاطب بدوره مخاوف الواقعيين من قدرة الأمان الحالي على الاستمرار في ظل تهديد مستمر من خارج منظومته.
أفيش الفيلم نفسه يحاول استدعاء أفلام أواسط القرن الماضي بأسلوب تصميمه اعتمادًا على صورة مرسومة يدويًا بألوان تذكرك مباشرة ببوسترات الأفلام المطبوعة بطريقة (الأوفست الليثوغرافية) بألوانها قليلة التشبع التي تعطي مظهر القدم بخلفيتها الصفراء الباهتة. حتى الرسم الذي يمثل البطلين يكرس المظهر الأبوي الشائع في ثقافة تلك الفترة حيث البطل يبدو متحفزًا ينظر إلى الأمام محاولا حماية حبيبته التي يمسك بكتفها بقبضته القوية داعمًا بينما هي خلفه تنظر إليه بوله ورجاء، وأناملها المتمددة على صدره تشي بالاعتمادية والسكن.
الفيلم هنا اعتمد على ذاكرة المشاهد المولع بالسينما وبقصص الغرائبيات على وجه الخصوص، ليس ذلك فقط، لكنه من جهة أخرى استدعى تاريخًا قريبًا ما يزال أكثرنا يذكره؛ العزلة التي اضطر سكان الأرض جميعًا للالتزام بها على مدى العقدين الماضيين مع ظهور الأوبئة الصادمة المتعددة منذ وباء سارس وإنفلونزا الطيور ثم الخنازير وحتى وباء كوفيد١٩ الذي كان له الأثر الأكبر في تقييد حريات الناس وإجبارهم بقوة القانون أو بسلطان الخوف على البقاء في منازلهم. أول ما تستطيع استنتاجه بعد أن تتأمل زي الغرباء القادمين أنهم جماعة من محاربي الأوبئة يحاولون العثور على مصاب بفيروس خطير لعزله ومنع انتشار المرض، لكن ما هو هذا المرض الخطير، ومن من ساكني البيت مصاب به؟
من الحوار، من جملة تبدو عابرة لكنها موجزة بليغة ككل جمل الحوار الجيدة؛ نفهم أن كليهما مصاب، لكن المرأة هي من نقلت العدوى لزوجها، فهي تقول له: "آسفة أنني جعلتك جزءًا من ذلك"، لكن ما هو ذلك؟! ما المرض الذي قد يبدو مصابان به بهذه القوة والصحة الجيدة دون أن يشكل لهما المرض أي أزمة سوى الخوف والقلق من أن يكتشف أمر إصابتهما؟!
يتركنا الفيلم معلقين حتى اللحظة الأخيرة، فنكتشف أن عواطفنا تجاه الزوجين اللطيفين الرومانسيين لم تكن في محلها، نكتشف أنهما وإن كانا ضحيتين للمرض الخطير إلا أنهما لا يستحقان الشفقة.
أحمد صلاح الدين طه
٢١ أبريل ٢٠٢٥
dedalum.info@gmail.com