وظائف خالية

الفيلم القصير (أرض الغراب).. لحظة انعتاق الذاكرة وينجي.. قصة أورويلية بائسة تعتريها البهجة
Total online: 7
Guests: 7
Users: 0
فيلم توشريت.. سجال بين الفني والإعلامي

فيلم أرض الغراب محمد دربنديخاني
 
أرض الغراب.

عنوان يحيلنا إلى التساؤل عن المكان (الأرض)، والغراب (الشخصية) من يكون هذا وأين تقع تلك، وما الذي قد يكون رابطًا يُعَلّقهما معًا؟!

تساؤلنا عن المكان لا يأخذنا إلى معنى محدد، فقد يكون أول ما يتبادر إلى أذهاننا ترجمة ما نعرفه عن انتماء صانع العمل ومنتجه فهو كردي عراقي، فهل تدور أحداث الفيلم في العراق.. في إقليم كردستان العراق مثلا؟!

يزوغ المخرج محمد دربنديخاني دون إجابة حاسمة عن هذا السؤال، فمن خلال النص الافتتاحي للفيلم (المكتوب على شاشة سوداء) يتحدث عن الدستور:

"الفقرة (1) من المادة الثانية والأربعين من الدستور. قرر مجلس قيادة الثورة شمول مواليد 1980 بالخدمة العسكرية عليهم الالتحاق بمركز التجنيد فورا".

عرفنا إذا المادة والفقرة التي أقرت ذلك، وعرفنا السنة التي شُمل مواليدها بقرار التجنيد (الإجباري)، وعرفنا أن هذا قرار (مجلس قيادة الثورة) أي أن البلد المقصودة قامت فيها ثورة ما، وما أكثر الثورات في منطقتنا هذه، لكن مع كل هذه المعلومات يغفل المخرج تحديد البلد المقصودة بالاسم، فيما يبدو لأنه يريد أن يدفع ذهن المشاهد لتوسيع دائرة المكان فتصبح الأحداث متعلقة بالإنسان أينما كان. حتى لو أخذنا في الاعتبار العبارة المكتوبة على الجدار "عاش صدام" فهي ليست دليلا قاطعا أن الأحداث تدور في العراق مثلا؛ لأن كثيرا من شعوب المنطقة اعتبرت الرئيس الراحل صدام حسين بطلا قوميا أو رمزا للبطولة بعد محاكمته الهزلية تحت سلطان الاحتلال وإعدامه صبيحة عيد الأضحى التي اعتبرها كثير من المسلمين حول العالم إهانة بالغة لكل فرد منهم خاصة بعد انتشار الفيديو الذي يظهر فيه وهو ينطق الشهادتين بثبات ويقين اختلف المحللون النفسيون في تفسيره لكن بالنسبة للجماهير العريضة أضفى موته الأسطوري نوعا من القدسية جعلت الكثيرين يتناسون أي مساوئ نُسبت لحكمه ويذكرون فقط حسن خاتمته.. مما يجعلنا لا نعتبر عبارة "عاش صدام" دالة تقودنا إلى أن الأحداث تدور في العراق، فقد يكتب هذه العبارة أي جندي يجلس وحيدا في أي بلد تتحدث العربية، بل إنني رأيت مثيلها منقوشة على بيوت البسطاء في أقصى صعيد مصر وسط رسوم وعبارات التهنئة بعودة الحجاج.

  إذا، الأرض التي يشير إليها الفيلم ليست مكانا فيزيقيا، وإنما هي مساحة داخل نفس الإنسان، ربما هي ساحة تداول الأفكار بين وعيه ولاوعيه، وهنا نتعجب أيضا لماذا ينسب عنوانُ الفيلم الأرضَ للغراب؟ الغراب الذي يتماهى اسمه مع الغربة. وهو أيضًا ذلك الطائر النوحي (من النواح)، اتُّخذ الأسود منه رمزًا للبين (غراب البين) علامة رحيل الأحبة ورمز الفقد ومصدر التشاؤم. أول من علَّم ابن آدم دفن جثمان أخيه؛ فأورثه بذلك ندمًا أبديًا، أما إذا اجتمعت الغربان صارت مصدرًا للقلق تهاجم الناس وتسرق ما بأيديهم من طعام، وتنتقم أشد انتقام ممن يؤذي أحد أفراد فصيلتها.

  يقال إن الغراب هو الطائر الوحيد الذي يتجاسر ويقف على ظهر النسر أثناء تحليقه بل وينقره في رقبته دون أن يفعل النسر شيئا حياله، هذا الموقف يترجمه الفيلم في لقطته الافتتاحية باستعارة سينمائية حيث نرى النسر على بيريه (قبعة) جندي، لا يظهر الجندي كاملا وإنما يبين أنه يجلس القرفصاء ويظهر النسر في لقطة مقربة.. تتحرك الكاميرا إلى الخلف مع طرقات إصبع الجندي أعلى النسر بإيقاع رتيب، وتظهر في مقدمة الكادر رصاصات متراصة كأنها جنود في لعبة الشطرنج.. نسمع في نفس الوقت صوت نعيق غراب لا يظهر وإنما يأتي من خارج الكادر.. وصوت الغراب شؤم كما تتوافق معظم الثقافات في كل العالم على ذلك، وسماعه يوحي أن هناك من سيموت عما قريب.. لكن مَن هو ذلك الذي ينتظر حتفه؟!

  لعبة الشطرنج التي تظهر في اللقطة الافتتاحية بشكل غير واضح ثم نتأكد في آخر الفيلم أنها هي هي، بناء دائري لسيناريو الفيلم يوحي بأنه وحدة زمنية متكررة، حدث سيستمر إلى ما لا نهاية، حتمية في الحياة لا سبيل إلى الفرار منها.. لعبة تبدأ بنعيق الغراب وتنتهي بالموت، هي لعبة الملوك والقادة.. رقعة الشطرنج تبدو عالما أرضيا واللاعب الوحيد يبدو مهيمنا.. كيف يخسر، وما الذي يمكن أن يعود عليه لو ربح؟

  تهبط الكاميرا من السماء، حركة رأسية ندخل بها إلى القصة ونرى البطل لأول مرة في تكوين هرمي من زاوية رؤية منخفضة توحي لنا بالهيمنة، ربما هو نفس لاعب الشطرنج الذي رأيناه في اللقطة السابقة، يظهر ذلك من زيه العسكري المموه، يصول ويجول كليث في عرينه الذي هو نقطة مراقبة، حارس لحدود ما، لا نعرف إن كانت حدودَ بلدٍ أو سورَ سجنٍ أو قصرا رسميا، إنه فقط فاصل بين عالمين لا نعرف ما داخله، لكننا نرى خارجه أرضًا براحًا، مروجًا خضراء.. لقطة وحيدة تكشف المكان الوحيد الذي لا محدودية له في الفيلم.

  يحرص المخرج على التكثيف الذي هو سمة للأفلام القصيرة فيقدم معلومات هامة باستخدام العناوين المكتوبة التي نفهم منها أن هذا الجندي التحق بالخدمة رغما عنه بعد قرار رسمي بتجنيد مواليد 1980 أي أنه قد يكون في أواخر الثلاثينيات من عمره على الأقل، للمفارقة أن العام المحدد هو عام بدء الحرب العراقية الإيرانية التي خلفت كمًّا مهولًا من المآسي المروعة وانتهت بعد ثماني سنوات دون أن يربح أي طرف في الحرب شيئا، الجميع خاسرون، والخاسر الأعظم هم صغار الجنود والمدنيون الذين فقدوا أكثر من مليون روح بشرية لا ناقة لها في الحرب ولا جمل.

  يبدأ دخولنا عالم هذا المجند الوحيد في نقطته المكلف بحراستها بلقطات من زاوية رؤية منخفضة، نرى في لقطة مقربة حذاءه  العسكري (البيادة) جديدة تماما فنعلم أنه دخل حديثا إلى هذا العالم، تقفز زاوية التصوير بين لقطة والتي تليها لتصبح الكاميرا في نفس مستوى البطل، رغم أننا نتلصص علىه دائمًا من خلال إطار يحبسه المخرج داخله، أسلاك شائكة أو نوافذ، أو علاقة تباين شديد بين الظل والنور، يبقى الجندي أسير التأطير المتعمد وتصعد الكاميرا لتدخلنا إلى عالمه المحدود.. نقترب منه فنعايش إحساسه بالملل.. الملل الذي يكون حافزًا يحمله للخروج من ضيق المكان إلى رحابة الذاكرة.

  لقطات بالأبيض والأسود، وكما عودتنا اللغة السينمائية التقليدية أن الألوان الأحادية تشير إلى الماضي، وفي الماضي يظهر طفل يلعب بالكرة.. كرة القدم، اللعبة الشعبية الأولى في العالم، أفيون الشعوب الحقيقي الذي يخلب ألباب الجماهير العريضة ويسلب عقولهم ويغيب وعيهم تماما. تدفعهم لعبة الأقدام تلك للتناحر والتباغض. بعض المباريات انتهت بضحايا يعدلون عددًا من يقعون في بعض المعارك. تندفع الكرة خارج الكادر مفلتة من قدم الطفل الصغير الذي يتحول انتباهه إلى رجل قادم.. رجل يتبختر وفي يده هدية للصغير.. صندوق يحوي بندقية.

  بين الذاكرة والواقع، الماضي والحاضر تصير البندقية (اللعبة) سلاحا حقيقيا، ويصير الولد الصغير إلى ما هو عليه بعد قبلات أبيه وبعد تسلمه الهدية (الفخ) التي تنفي الماضي إلى أعماق الذاكرة، وتحوله إلى جندي يجلس وحيدا، منفيا في غرفة حراسة لمكان لا يدرك أو ندرك كنهه أو حدوده، لكن وعيه يحاول استعادة الماضي من اللاوعي فنراه يعمد إلى تفكيك الواقع، بصعوبة يخرج الرصاصات المحبوسة داخل خزانة البندقية ويحولها إلى لاعبين في ملعب كرة قدم رسمه بقطعة صخر جيري (طبشور) على الأرض، يبدو أنه يحاول استعادة طفولته من خلال لعبته الأولى التي تركها تضيع من قدمه ليتسلم واقعه الجديد الذي نراه آخر الأمر يستسلم لحضوره، بعدما نسمع من خلال تراك الصوت نباح كلب من خارج الكادر، الكلب كان دائما رمزا للحراسة، سمعنا صوته فرأينا ملعب كرة القدم يتحول إلى رقعة شطرنج، واللاعبون يصيرون جنودا متراصين، ويحضر نعيق الغراب الذي سمعناه في أول الفيلم فأفهمنا أن هناك من سيموت أويرحل، ونرى في آخر الأمر الجنود (الرصاصات) وقد سقطوا جميعا محطمين إلا من وجد في موقع الطابية والملك والملكة فهم الوحداء الذين خرجوا سالمين من المعركة، وكأن الجنود ضحوا بأنفسهم من أجل بقاء حصونهم وملوكهم.



تكنيك صانع الفيلم:

 
Behind the scene تصوير فيلم أرض الغراب محمد دربنديخاني
 
  وظف المخرج محمد دربنديخاني أدوات اللغة السينمائية التقليدية بحرفية عالية استطاع من خلالها دفعنا لمعايشة الحالة المكثفة للحظات في حياة شاب ينخرط في سلك الجندية حديثًا، ولما لم يكن هذا الإطار الظاهري للموضوع هو كل ما يهم صانع الفيلم اختار لحظة حاسمة تكشف الماضي والحاضر وتجعلنا نستشرف المستقبل أيضا، ومن خلال استعارات بصرية وسمعية جعلنا نتنقل بسهولة بين الأزمنة والحالات النفسية والفكرة التي يريد أن يصل لها بوضوح وبغير مباشرة في نفس الوقت.

  يعتبر التأطير هو الاستعارة البصرية الأوضح التي من خلالها عايشنا حالة العزلة القاتلة التي يشعر بها البطل فهو مقيد بالمكان، مقيد الاختيارات مجبورا بأمر (مجلس قيادة الثورة) على البقاء حيث هو، فكأنه في سجن لا نرى حركته أبدا إلا داخل إطار ما، مرة الأسلاك الشائكة، ومرة حدود النوافذ، ومرة التباين العالي في الإضاءة بين مناطق ظل شديدة الإظلام ومناطق استضاءة عادية التعريض، ومن الواضح أن ذلك لم يكن سهلا لأن مدير التصوير لم يعتمد نهائيا على أي إضاءة صناعية فكان كل لعبه لتحقيق هذا الشكل البصري على اختيار زوايا التصوير والتوقيت المناسب.

  استعارات بصرية أخرى مثل الكتابات على الخلفية السوداء في أول الفيلم والتي تختزل كثيرًا من الأحداث وتساعد في التكثيف الملائم لفيلم قصير، كذلك العبارة التي يكتبها البطل ولا يتضح لنا تماما إن كانت اسما أو معنى مقصودا "عاصي دل...."، أو عبارة "عاش صدام" التي تحيلنا إلى مدلولات سياسية واقتصادية واجتماعية بل وميثولوجية أيضًا.

  ظهور البرص (الوزغ أو أبو بريص) وهو زاحف سيء السمعة، يعتبره معظم الناس مقززا ولا يقبلون وجوده في المكان الذي يعيشون فيه، لكن بطل الفيلم لا يبدي أي انزعاج لوجوده، بل يمارس سلطته عليه فيحبسه داخل إطار يرسمه حوله بالطباشير، وهي فكرة يرددها المجندون عادة في المناطق الصحراوية حيث يقولون إنك لو رسمت دائرة مغلقة حول البرص ينخدع بها ويظنها سورًا لا يتمكن من تجاوزه أبدًا حتى يموت (هكذا يقولون والله أعلم)، الدائرة التي يرسمها المجند هي تحقيق لفكرة انتقال السلطة وتبادل الأدوار، فكما أن الساسة (مجلس قيادة الثورة) يحبسون البطل داخل إطار نقطة الحراسة المكلف بها، يفعل هو نفس الشيء عندما يتسلط على كائن أضعف، زاحف مهمش لا يملك أن يعارض أو يعترض. وللمفارقة نجد أن البطل الذي وضع نفسه موضع السلطة يحقق نفس إخفاقاتها عندما تنتهي لعبة الشطرنج بينه وبين نفسه بموت جنوده، والذي عبر عنه صانع الفيلم من خلال استعارة بصرية أخرى هي دمار الطلقات التي نراها ملقاة في أرض اللعب (ساحة المعركة) ولا ينجو منها إلا الملك والوزير (الملكة) والحصن.

  بالإضافة إلى ذلك هناك استعارات أخرى أشرنا إليها سابقا مثل النسر رمز الدولة، الرصاصات المتزاحمة داخل خزانة البندقية التي يحررها وتشير إلى الجنود وبطل الفيلم واحد منهم، والحذاء الجديد الذي يعرفنا أن الرجل حديث عهد بالجندية.

  أيضا هناك عدة استعارات صوتية مثل نعيق الغراب الذي صاحب الدخول إلى القصة ثم ختامها آخر الأمر، ونباح الكلب الذي صاحب نقطة التحول في الأحداث.

فيلم بخمس دولارات

 
المخرج الكردي محمد دربنديخاني مع جائزته


  لم أندهش عندما علمت أن تكلفة إنتاج فيلم أرض الغراب لم تتعد خمس دولارات، أي حوالي مائة وخمسين جنيها مصريا أو ستة آلاف وخمسمئة دينار عراقي، وهو مبلغ بالكاد يكفي وجبة غداء جيدة لأحد أفراد طاقم التصوير. قد يكون ذلك قدر الأفلام المستقلة عامة والقصيرة منها خصوصًا، فهي تنتج بما يقارب الصفر ميزانية، وهي حقيقة لا تعني أن يكون مستواها الفني متأثرا بمثل هذا الضعف الإنتاجي الرهيب، المشكلة تتعاظم طبعا في الأقاليم التي لم تنشأ فيها صناعات سينمائية ذات سوق مضمون يؤهلها لثقة المستثمرين ما يحفزهم لتمويلها، وإقليم كردستان العراق هنا نموذج ليس الوحيد في منطقتنا، لكن مع ذلك يبقى أن للإبداع قدرة على التحقق مهما واجه من الصعاب، بل ربما تكون العقبات التي يواجهها صانع الأفلام الموهوب حافزه الأكبر للظهور والكشف عن موهبته تلك، وليس أدل على ذلك من المستوى الفني الراقي الذي ظهر به الفيلم، والذي أهله للحصول على 43 جائزة في مهرجانات دولية في مختلف أنحاء العالم حتى الأن ومازال يعرض ويلقى قبولا واسعًا يدفعنا لاعتبار مخرجه وفريق صناعه المتطوعين نجوم ظل ومواهب مكنونة تنتظر منتجًا واعيا يفجر طاقاتها ويفيد عالم الفن بها.
 


أحمد صلاح الدين طه
8 أغسطس 2023
dedalum.info@gmail.com
 
avatar

الأعضاء المٌسجلون فقط يٌمكنهم إضافة تعليقات
[ التسجيل | دخول ]
 

لنشر مقالك هنا.. اضغط اللنك 


إذا لم تكن عضواً في ديدالوم سجل الآن، اضغط هناااا

 
    أضف خبرًا فنيًا         أكتب مقالا على ديدالوم