وظائف خالية

وينجي.. قصة أورويلية بائسة تعتريها البهجة فيلم Mirror Mirror عندما يعكس الكون اضطرابك
Total online: 1
Guests: 1
Users: 0
الفيلم القصير (أرض الغراب).. لحظة انعتاق الذاكرة

كرتون animeوينجي.. قصة أورويلية بائسة تعتريها البهجة

 

 

  هو كارتون لكنه ليس للصغار، إنه للكبار فقط.. كبار العقول والقادرين على التلقي الواعي والاستمتاع بحالة من النقد السياسي والاجتماعي بل والتاريخي.. 

 

  فيلم وينجي ينحت بمبضع جراح على صخرة حية صورة دولة تحتفي بكل شيء: بالتطرف الديني والتطرف الأيديولوجي وحتى التطرف الجنسي، لكنها فقط تقتل أبناءها المبدعين.

 

  وينجي، كما يشير صانع الفيلم الفنان إبراهيم سيد، كلمة نوبية تعني (نجم).. 

  في ظاهره، يحكي العمل قصة نجم من عامة الشعب يعلو صوته وينتشر صيته مما يثير حنق الحاكم (الكل في الكل) الذي لا يتصور أن صوتًا قد يعلو فوق صوته، أو أن شخصًا من كتلة الشعب قد يبرز عن المجموع بحيث يصبح مرئيًا للجميع، فيحدث الصدام غير المتكافئ الذي ينتهي بقتل النجم. أما ما بين السطور فتتخفى حكاية أكبر، حكاية صراع أخرس بين شعب خانع وحاكم متسلط.. إنها القصة ذاتها التي تنتهي كل مرة بثورة جديدة.

 

  يمكننا أن نحدد مكان أحداث فيلم التحريك السياسي (وينجي) على أنه السودان؛ فصانع الفيلم سوداني وألوان بشرة الشخصيات ملونة بدرجات البني الأقرب إلى سمرة أهل النوبة شمال السودان، والموسيقى في الخلفية تتردد من خلال السلم الخماسي الذي يشيع في نفس المنطقة، بل حتى اسم الفيلم تم اختياره باللغة النوبية وهو نوع من الإشارة إلى منطقة ومنطق الأحداث، لكن الفيلم يقودنا في اتجاه آخر إلى التسليم بأن المكان ليس كما يبدو لأن الأحداث قد تقع في أي مكان حيثما يوجد حكم شمولي في يد فرد يتمادى ويجد نفسه جديرًا بأن يكون كل شيء ولا يمثل الشعب بالنسبة إليه إلا جمهورا يجلس في مقاعد المتفرجين بينما بطانته/جوقته/رجاله يتولون مسألة تأليهه ليس في عقل جموع الناس، الكتل الصامتة فقط، بل أيضًا في عقله هو نفسه.

 

  يفرق الفيلم بحدة بين عالمين، عالم الحاكم وحاشيته في قلعته ذات الألوان الساخنة الزاهية فوق التل الأعلى، وعالم الشعب القانع الخانع في منازله بألوان الأرض الباهتة عند السفح، لكن العالم الأول عالم مزيف للغاية، والآخرون عالمهم حقيقي بعمق.. بينما تمثل بيوت الشعب كتلا متداخلة، كأنها وحوش خرافية ذاهبة في سُباتٍ عميق، تظهر في مجموعها كما لو كانت كتلة واحدة؛ نجد بيت الحاكم براحا يتسع ولا يسع غيره. 

 

  مع الشعب تظهر حيوانات حقيقية مستأنسة رغم أصلها الوحشي (القطة والكلب) نجدهم بين الناس، والجميع لا يختلفون في الهيئة أو السلوك فقط الحجم، أو المساحة التي يشغلها كل فرد، أما في بيت الحاكم لا نجد إلا بطة بلاستيكية ترافقه في مسبحه ولا تعني شيئا أكثر من كيان مزيف.. على ستار الحمام نرى صورة الحاكم مفتول العضلات مُسَوْبَرًا (نسبة إلى هيئة سوبرمان)، لكنه في الحقيقة لا يمت إلى هذا التصور بأي قدر من الصلة.. مجرد زيف نرى تفاقمه، بشكل لا لبس فيه، في مشهد بسيط مكثف حيث يمر الحاكم بموكبه شديد الفخامة في سيارته التي بدت طويلة للغاية، يتقدمها حارسان ذوا فخامة بملابسهما الأنيقة على ظهر دراجتين بخاريتين توحيان بالعظمة والثراء، كل ذلك يمر بامرأة عجوز قعيدة من عامة الشعب تتحرك فوق قاعدة بعجلات دقيقة هي أقرب إلى الزحافة التي يستخدمها بعض الشحاذين لاستعطاف الناس، ويرفع الحاكم يده محييًا جمهورًا ليس موجودا أصلا، وأمام هذا المشهد العبثي، تجد العجوز نفسها تضحك (بعد أن يمر الموكب) فهي لا تستطيع أن تعبر عن مشاعرها الحقيقية إلا في غياب صاحب الدولة وأصحاب صاحب الدولة وذيولهم.

 

كرتون animeوينجي.. قصة أورويلية بائسة تعتريها البهجة

  يبدأ الفيلم بنص مكتوب باللغة الإنجليزية، لماذا الإنجليزية؟!

  يظهر أن لذلك دلالة واضحة على أن إبراهيم سيد لا يريد لفيلمه أن يصنف كفيلم محلي، وربما هو يطمح أساسا لمخاطبة الخارج، أو ربما يكتفي من جمهور الداخل بالمثقفين/المتعلمين القادرين على متابعة فيلم يبدأ بنص إنجليزي، وفي كل الأحوال نرى إيهاما بالخوف يُضمِر تهكما واضحا وسخرية من فكرة تقييد الحرية.. يقول النص:

"ليست هذه قصة حقيقية.. صدقوني.. لأن لدي عائلة تحتاجني".

النص يجعل الفكرة واضحة إلى حد بعيد، لكن ككل الفنانين أصحاب القضايا يعود صانع الفيلم فيؤكد فكرته من خلال مشهد افتتاحي نرى فيه مجموعة، أسرة من أب وأم وأخ أكبر وحتى قط الأسرة، الجميع يجلسون في هيئة كتل كأنها من جرانيت أصم بعيون ضيقة هي الشيء الوحيد لديهم الذي يتحرك، لا نقول حتى إن أفواههم مغلقة؛ لقد أغفل مصمم الشخصيات رسم فم لأي منهم، أما الابن الأصغر فيخالف الجميع، يخرج عن الصمت، يرفع يده ويفتح فمه ويصيح.. يهتف مناديا بصوت لا نتمكن حتى من سماعه، لكن فوهة بندقية تمتد، لا نرى من يحملها، تُخرس الصوت الوحيد إلى الأبد ولا تترك منه إلا بقعة دم هي اللون الساخن الوحيد في صورة تعمها البُنِّيَّات وتفترش السماويَّ الباهت. 

 

  بعد هذه المقدمة المكثفة التي ترشد المتلقي إلى استقراء معانٍ يريد الفيلم أن تصل إلى كل متلق دون التباس، وبنفس القدر من الوضوح؛ دون أن يتخلى عن فنيته، تبدأ الأحداث بوصول فنان يبدو بهيئة الأراجوز التقليدي، بل إن الشاشة التي يظهر من خلالها تشبه مسرح الأراجوز التقليدي الذي كان جزءًا من التراث الفني عندنا في مصر والسودان وكذلك في كثير من بلدان الشرق الأوسط، تمثيليات الأراجوز لم تكن مجرد أداة للتسلية بل كثيرًا ما حملت نقدًا إجتماعيًا وسياسيًا لاذعًا، كما استُخدمت أحيانًا في إيصال رسائل ضد الاحتلال والفساد. هل ننسى الفيلم الرائع (الأراجوز) للمخرج هاني لاشين من بطولة عمر الشريف وهشام سليم رحمهما الله، وكيف ظهر من خلاله الدور التوعوي للأراجوز والطبع الثوري للفنان الذي يُعبر من خلاله عن مشاعره ومشاعر عموم سكان القرية.

 

  الفم على الشاشة.. بعرض مساحتها نرى شفتين مكتنزتين، ويبدو أن هذا الرمز في المجتمع الذي يصوره الفيلم يعتبر جريمة تستدعي حضور ممثلي السلطة: شرطي بشارب كث، وطائر غريب بمنقار طويل، ربما هو غراب أو نوع آخر من الطيور لها خواص الغراب المنفرة لا سيما ارتباطه بالبين، وعنكبوت يظهر أنه من تلك الفصيلة السوداء السامة من العناكب. كل هؤلاء يقلقهم اجتماع الناس حول الأراجوز، لكن الأراجوز يغني فتصدح أغنية أمريكية معروفة لتشوبي تشيكر (The Twist) والتي تقول:

  تعالوا جميعًا

  صفقوا

أنتم رائعون

  سأغني أغنيتي

  لن تستغرق وقتًا طويلا

 

  الموسيقيُّ يجمع الناسَ حوله، والموسيقى تحلق بعيدًا، وتخترق جدران قلعة الحاكم الذي يرتبك ويجري نحو النافذة متلصصا على ما يحدث هناك بين جموع شعبه، يستخدم منظارًا معظمًا مكتوبًا عليه بوضوح 1984، إنها علامة محيرة، ما الذي تعنيه، قد تكون إشارة مباشرة للتاريخ، يجوز ذلك؛ ففي هذا التاريخ بدأت في السودان اضطرابات على حكم جعفر النميري انتهت بإقصائه عن الحكم بعد عام واحد أو أقل، وفشلت كل مساعيه للسيطرة على الأوضاع مما جعل طائرته القادمة من أمريكا تغير مسارها وتهبط في القاهرة ليظل فيها خمسة عشر عامًا قبل أن يفكر في العودة إلى بلده ونشاطه السياسي، هناك إشارات في فيلم وينجي قد تؤكد أن المقصود بالحاكم يمكن أن يكون النميري، لقد بدأ حياته السياسية بميل واضح للشيوعية ثم تحول إلى التيارات الدينية المتشددة، ثم حاول مداهنة كل من قد يساعده على إبقاء مقاليد الحكم في يده، لكننا رأينا منذ بداية الفيلم ميل صانعه إلى أن تكون قصته ذات طابع عالمي، إذا أخذنا ذلك في الاعتبار يمكننا الانتباه إلى أن الرقم 1984 هو إشارة لرواية جورج أورويل التي تحمل نفس الاسم، هذه الرواية التي كتبت عام 1948 وكانت تدور حول ديستوبيا مستقبلية، فكانت تتنبأ بصورة العالم أو الدولة (إنجلترا) في المستقبل، بالنسبة للزمن الذي كتبت فيه الرواية كان عام 1984 يمثل مستقبلًا، حيث يصور أورويل دولة تحكمها مؤسسة شمولية يفقد المواطن فيها حريته ويتحول إلى ترس في آلة الوطن المُتَرَّسَة، تشبه الرواية واقع الفيلم مع اختلاف بسيط أن الدولة في الفيلم حالها أكثر مأساوية لأن من يديرها حاكم فرد مؤله.

 

  يرغب الحاكم منذ البداية في أن يتخلص من الأراجوز، الفنان، النجم الذي يأسر الجماهير، لكن رجله القوي، العسكري، تتفتق يده عن فكرة، وهنا أقول (تتفتق يده) ليس تجاوزًا، لكن صانع الفيلم يختار أن تخرج الفكرة من يده في إشارة واضحة لمصدر قوة هذه الشخصية، اليد رمز القوة والبطش والسلطة، تخرج الفكرة كأيقونة تقليدية، مصباح يبرز من يده ويتضخم ليقدم حلا آخر للحاكم، دون عنف، فقط أن يصبح الحاكم منافسًا قويًا للفنان، فينشئ مسرحًا مبهرًا، ويسميه كذلك (The Amazing Theatre)، وهو عمل يذكرنا بقصة قديمة في تراثنا العربي، وهي قصة أبرهة الحبشي وكعبته التي أنشأها في اليمن وزينها بكل ما يخطر أو لا يخطر على بال لصرف عقول العرب عن بيت الله الذي بمكة المكرمة، لكنه يفشل لأن كعبته زائفة والكعبة التي بمكة قد لا تكون صرحًا ضخمًا لكنها بيت عبادة حقيقي، مكعب صغير يصل الناس بتاريخهم وثقافتهم وعقيدتهم، لذلك لم يتمكن أبرهة من هزيمة روح المكان، وكذلك لم يتمكن الحاكم من الانتصار في معركة المحبة التي تَحكمُها المشاعر وتُحَكِّمها القلوب.

 

  المقارنة بين موقف الفنان ومركز الحاكم لا يمكن أن تخدع إلا ساذج؛ الفنان يعرض فنه في ساحة عامة أو شارع مشاع، أما الحاكم فيقصر عروضه على مسرح ضخم، الأول يقدم عروضه لعامة الناس، نراهم يجتذبهم الصوت واحدًا واحدًا حتى يصيروا جمهورًا كثيفًا، والثاني يقدم عرضه لجمهور عجيب، يبدو كثيرا لكننا لا نرى منه إلا أيدي مرفوعة، وربما نتساءل عن استخدام الأيدي فقط وهل لذلك علاقة بالرجل العسكري الذي اتفقنا أن عقله في يده، هل كل هؤلاء مجرد أتباع لصاحب اليد القوية.. أي أنه جمهور زائف في مسرح زائف، ولتكملة الحالة فإن الفن الذي يقدمه الحاكم أيضا مجرد خداع، حيث يقبع الرجل العسكري في غرفة سرية يشغل من خلالها موسيقى مسجلة بينما يتظاهر الحاكم أنه يعزفها، وعندما يتعطل جهاز التسجيل يجد الحاكم نفسه في موقف شديد الإحراج يجعله كما يقال يقلبها ظلمة على الجميع.

 

كرتون animeوينجي.. قصة أورويلية بائسة تعتريها البهجة

 


  يسرع الحاكم لإنقاذ نفسه باستخدام التليفزيون الذي يرى من هم مثله أنه وسيلة لتزييف الحقائق، فيصور نفسه ملاكًا، أو سوبرمان يحارب الإرهاب الديني تارة (في صورة رجل بعمامة سوداء، يحمل في كل يد سيفًا)، والتطرف الأيديولوجي (في صورة مسلح شيوعي)، كما يقاوم جماعات الشذوذ الجنسي (في صورة مهرج بطرطور يشبه ما يرتديه الأراجوز لكنه ملون بألوان قوس قزح) هذا العالم المزيف الذي يتصدر نشرات الأخبار ليس إلا تمويها (كوموفلاج)، وفي الخلفية تدور مؤامرة خبيثة لشيطنة الفنان من أجل التخلص منه، فالدولة آخر الأمر تتقبل بصدر رحب كل الأفكار المتطرفة ومن يحملونها ويدافعون عنها، لكنها فقط تصدر حكما بإعدام فنانها الأوحد، الرجل الوحيد الذي تجرأ ففتح فمه، وتطاول ليرفع صوته بالغناء وراح ينشر البهجة في النفوس القاحلة.

 

  يتم إعدام الفنان، النجم؛ لكن القصة لم تنته عند هذا الحد، يمكنهم فصل روح عن جسد لكن أحدًا لا يستطيع أن يزيل أثر هذه الروح الذي خلفته في قلوبٍ وعقولٍ أجهدها طول ما كتمت مشاعرها.. تشق الصرخة المحتبسة فمًا في وجه مواطن بسيط فتخرج ثورة تطارد ذلك الزيف، طوفان غضب أحمر يجعل الحاكم يفر في طائرته من هذا العالم الأورويلي الذي لن يكون موجودا بعد الآن، ويبقى الفنان فكرة كنجم في السماء بعد أن أعادت تضحيته تشكيل العالم.

 

  من خلال كارتون وينجي (نجم) رأينا كيف يميل إبراهيم سيد إلى اعتبار فن التحريك أداة للنقد السياسي، ووجدناه مؤمنًا بدور الفنان في المجتمع، لا يخامره شك في أن كل فنان قادر على المساهمة في التغيير من خلال دوره الريادي وربما من خلال التضحية بنفسه أحيانًا، لذلك وظف تقنيات الرسوم المتحركة ثنائية الأبعاد البسيطة، كما لم ينح إلى غموض وتعقيد التكنيك ليترك مساحة أكبر لطرح الأفكار، فمثلا فصل بين عالم الحاكم والمحكومين من خلال استخدام الألوان الساخنة عالية التشبع للأول، وألوان الأرض من البنيات والأخضر والأزرق المخضر للآخرين وبيوتهم، وعندما تجرأ الفنان فظهر مرتديا اللون الأحمر يعزف على آلة صفراء فاقع لونها تسر الناظرين، على خلفية زرقاء عالية التشبع، عُد ذلك جريمة استوجبت مجابهته وانتهت بقتله. 

 

  كذلك تم توظيف الرموز الواضحة مثل اختفاء الفم من وجوه عامة الشعب دليلا على خنوعهم وخضوعهم التام، عندما تعبر المرأة العجوز الكسيحة عن نفسها يظهر ذلك في صورة إيموجي دون أن تفتح فمها، فتح الفم ليس مسموحا إلا للحاكم الذي يملك فمًا ضخمًا يتحرك فكه السفلي حركة مبالغا في اتساعها مما يدل على النهم الذي لا يتسنى لأحد سواه، حتى حارسه المقرب عندما يطرح عليه فكرة الغناء يعبر عن ذلك من خلال مصباح يخرج من يده وليس فمه، وعندما تخرج الثورة تظهر أول ما تظهر في صورة شق يظهر مكان فم المواطن ينفتح عن فم ضخم يطلق الصيحة الأخيرة لزوال النظام.

 

  وينجي، كارتون نصنفه مخصصًا للمتلقي الواعي، لكبار العقول فقط.

 

أحمد صلاح الدين طه

8 أكتوبر 2023
dedalum.info@gmail.com

 

كرتون animeوينجي.. قصة أورويلية بائسة تعتريها البهجة



كرتون animeوينجي.. قصة أورويلية بائسة تعتريها البهجة



كرتون animeوينجي.. قصة أورويلية بائسة تعتريها البهجة

 

avatar

الأعضاء المٌسجلون فقط يٌمكنهم إضافة تعليقات
[ التسجيل | دخول ]
 

لنشر مقالك هنا.. اضغط اللنك 


إذا لم تكن عضواً في ديدالوم سجل الآن، اضغط هناااا

 
    أضف خبرًا فنيًا         أكتب مقالا على ديدالوم