وظائف خالية

قنا التي أعاد اكتشافها مهرجان دندرة

دانتيل .. كالعادة
Total online: 1
Guests: 1
Users: 0
كورونا يحارب الإبداع

 


 
  هل تعرف مدينة قنا، أو محافظة قنا ككل؟
  أزعم أنني، وأنك -فيما أعتقد- لم نعرفها جيداً قبل ذلك، أو ربما عرفناها وتجاهلناها، ربما لأننا حتى وقت انفصال الأقصر عنها كنا ننظر إليها، وكذلك كثير من المسؤولين على أنها مجرد (قتب) فوق ظهر الأقصر، مدينة الآثار العالمية.. ثلث آثار العالم كما يقولون وربما أكثر، والمقصد الأول لسياحة الآثار في مصر.. إلى جوارها؛ أصبحت قنا منزوية.. معزولة، رغم أنها العاصمة.

  لأمد طويل كانت الأقصر مجرد مدينة مركزية تابعة لقنا عاصمة المحافظة، لكنها المدينة الأكثر تميزاً، حتى إن انفصال الأقصر وتحولها إلى محافظة مستقلة، نظر له الكثيرون على أنه بتر لساقي قنا وذراعيها، فكيف سيكون حالها بعد انفصال المدينة الذهبية عنها.. خاصة ومعظمنا يعرف أن قنا كمعظم محافظات الصعيد لا يميزها اقتصادياً أي شيء.. أراض زراعية محدودة بين جبل قاحل وصحراء مجدبة، ونمو سكاني مضطرد.. الميزة الوحيدة فيه أن أبناء المحافظة المهاجرين خارجها، بل وخارج مصر كلها، يرسلون تمويلاً دورياً، تدفقه هو المصدر الوحيد لحياة الإقليم الذي ليس فيه موارد طبيعية أو نشاط صناعي أو غيره.

  لكن مهلاً.
  أليست قنا تلك التي تغنى في قللها سيد درويش رحمه الله يوماً: "مليحة قوي القلل القناوي"؟!
  أليست القلل القناوي هي نفسها التي ذكرت الأغنية القديمة عن صانعيها ما نصه: "دة ابن وطنك، ما يبلفكشي، ولا تعدموشي؛ ولا يعدمكشي"؟!
  ثم أليست هذه البلد التي كانت من أغنى مناطق مصر والشرق الأوسط يوماً، قبل اكتشاف الآثار، وقبل زمن البترول، وقبل تحولات القرن القاسية التي جعلتها ينظر إليها كبلد خال من الموارد؟
  ربما لا يعرف الكثيرون أن المنطقة بين قنا وجرجا في محافظة سوهاج، كانت دبي بالنسبة للعالم قبل أن تكون هناك دبي، وكانت هونج كونج العالم القديم قبل أن تعرف هونج كونج.. كانت من أهم المراكز على طريق التجارة التي كانت تأتي من الشرق عبر موانئ البحر الأحمر، ثم وادي قنا، لتصب هنا قبل أن تحملها المراكب عبر النيل إلى الشمال، أيضاً كانت نقطة تجمع الحجاج القادمين من الغرب متجهين شرقاً إلى جزيرة العرب عبر البحر، ثم مرة أخرى وهم عائدون.. موقع فريد لولا الصراعات السياسية والحربية هنا وهناك، ولولا اكتشاف طريق رأس الرجاء الصالح، ثم حفر قناة السويس؛ لظلت هذه البلاد من أغنى مناطق العالم، وأكثرها تنوعاً ثقافياً، وأعظمها تحضراً.
  
  لكن على أي حال إذا كانت الأموال ترحل، والأيام دول، لكن التحضر يورث، حتى لو كان أبناء العاصمة بعيداً غافلين، يصور لهم خيالهم الساذج أن البعيد عنهم بعيد عن الدنيا.. قابع في غيابات الماضي، لكن الحال هنا في قنا وما يحيطها من محافظات الصعيد المجهولة، أو المركونة، مختلف تماماً، ويستطيع العاقل أن يراجع نفسه ويحصي كم عدد القامات الثقافية العلمية والفنية والسياسية التي خرجت من هنا؛ ليدرك أن وهم تفوق إنسان العاصمة سراب.. زَبَدٌ لا يسير إلا إلى حيث يصير الزبد.

  هنا جاء دور مهرجان دندرة للموسيقى والغناء، المهرجان الذي عُقد في مدينة قنا، بين معبد هاتور أو حتحور، أو دندرة، وبين قصر الثقافة، ومسرح جامعة جنوب الوادي.. 
  المهرجان الذي انتوت وزارة الثقافة في خطوة جادة ومحسوبة جيداً في الطريق الصحيح، أن يكون مهرجاناً سنوياً أسوة بمهرجان القلعة، من أجل الترويج للفن الراقي من جهة، ومن جهة أخرى ربط المواطن المصري هنا وهناك -بصرف النظر عن إشارة هنا، وعلامة هناك- حيث يشعر المواطنون في كل أنحاء الجمهورية أنهم غير مغضوب عليهم، وأن وجودهم في إقليمهم ليس ضلالاً يصرف عنهم مزايا العاصمة.. أيضاً مثل هذا المهرجان الذي لا يجب أن يكون الوحيد تضمن رسالة عكسية، من قنا إلى عموم مصر، وربما إلى جميع العالم: إن في قنا ما لا عينكم رأت، ولا سمعتم عنه من قبل.. قنا التي لم تسمعوا عنها إلا نكاتٍ قديمة باخت مع الزمن أكثر مما كانت (بايخة) حينها.. قنا التي لا تعرفون من أهلها إلا (واحد بلدياتنا)، و(واحد صعيدي)، وأي واحد كان ذات مرة يفعل شيئاً مضحكاً في خيال المهرجين من مونولوجيستات، وأرتيستات ليضحك من يضحك.. قنا هنا، هي هذا البلد النظيف، الأنيق، والعريق.. البلد الذي لا يميز أهله فقط أنهم طيبون، أمينون في معاملتهم وهي أخلاق نادر هذه الأيام، لكنهم أيضاً مثقفون، متحضرون، مبدعون قادرون على تمثيل بلدهم أروع وأشيك تمثيل، فقط لو أتيحت لهم نافذة.. أظن مهرجانات كتلك مناسبة تماماً لجعلهم يطلون على مستقبل مختلف تماماً.

  قنا أيضاً لديها من المقومات التي تجعلها مركزا سياحياً وتجارياً لا يستهان به، وأستغرب لماذا لا توضع هذه البلد على خريطة الشركات السياحية سواء للسياحة الداخلية أو الخارجية، هل لأنها فقط تكون في الصيف حارة بعض الشيء؟ وهل يعد ذلك معضلة؟! شرم الشيخ أيضاً حارة، الأقصر وأسوان أشد حرارة، حتى مدن وقرى ساحل البحر المتوسط التي يميزها الاعتدال نسبياً تكون في أيام اشتداد الحرارة في القاهرة.. عندما يهرب المصطافون إليها حارة شديدة الحرارة أيضاً، والرطوبة العالية تضخم أثر درجات الحرارة، ورغم ذلك لم تكن الحرارة مشكلة أبداً، والتحايل القديم عليها بالراحة وقت القيلولة، ثم الانطلاق من قبل المغرب في الدروب والمقاهي وغيرها من السهرات البريئة التي تستهوي الأسر، والسائحين من كل الجنسيات الذين يعايشون مكائد الجو كتجارب لذيذة ومميزة، خاصة والمناخ هنا جاف مما سيجعل الشمس الحارقة أقل وطأة، برحمة من خالقها وخالقنا.

  عامة أيضاً إذا ضرتك حرارة الجو وجفافه، لا بأس، ففي قنا ألذ أدوية الحر وعلاجات الجفاف، عصير القصب.. القصب الأصلي من مصادره.. إلى جوارك مزارعه التي تنتج أفضل الأصناف، ولا تشحن مئات الكيلومترات حتى تصل إليك في القاهرة، بل تأتي رأساً إلى عصارات المدينة.. أعدك لو شربت هنا عصير القصب لنسيت كل تجاربك الرائعة حول هذا العصير، ولزرت قنا أنت وعائلتك جمعاً للاستمتاع بطعمه اللذيذ.. والله لا أشك أن هذا العنصر وحده لو كان في بلد آخر لقامت عليه مستقلاً سياحة.. سياحة القصب.. سياحة السكر.. سياحة عصير قصب السكر.

  أما إذا زرت قنا، واستمتعت بعصيرها، والسير في شوارعها النظيفة، والتعامل مع ناسها الطيبين، ولو جادت وأجادت وزارة الثقافة بالتعاون مع وزارة السياحة، والمحافظة، والهيئة الوطنية للإعلام، في تنويع منتجات فنية وثقافية من مؤتمرات وفعاليات، ومهرجانات رفيعة المستوى مثلما تم بنجاح مبهر في مهرجان دندرة للموسيقى والغناء، لو فعلت كل ذلك، لن يكون هذا كل شيء سيبقى عليك زيارة العديد من المزارات والآثار الإسلامية والمسيحية والمصرية القديمة، ويا سلام لو استطعت حضور فرح في إحدى القرى، أو استمتعت بأخذ قسط من الهدوء والراحة النفسية بحضور (ليلة) من الليالي التي تحييها إحدى عائلات قنا العريقة في (مقاعدها) بقراءة القرآن، والتغني بالإنشاد الديني، ودرس لأحد العلماء الراسخين في العلم، ولا تنس قبل المغادرة قراءة الفاتحة لسيدي عبدالرحيم، عبدالرحيم القناوي، الذي تقول عنه الأغنية المعروفة: "كل اللي جاي له، جا ناوي.. شايل في قلبه الغناوي.. أوعاك في يوم تقول له لا".
 
أحمد صلاح الدين طه
10 مارس 2020
dedalum.info@gmail.com








 

avatar

الأعضاء المٌسجلون فقط يٌمكنهم إضافة تعليقات
[ التسجيل | دخول ]
 

لنشر مقالك هنا.. اضغط اللنك 


إذا لم تكن عضواً في ديدالوم سجل الآن، اضغط هناااا

 
    أضف خبرًا فنيًا         أكتب مقالا على ديدالوم