وظائف خالية

وجوه الحرية حديقة.. في القاهرة إلى المغرب حيث تشرق الشمس
Total online: 1
Guests: 1
Users: 0
موسم رحيل الطيبين





 
  للأماكن حياة، وحياتها نبض الأحياء في جنباتها.

  إذا ساروا فيها صُنعت الممرات، دُقت الطرق، ودَقَّت التفاصل.

  صوتهم حسُّها، وإحساسُهم روعتها، وبهاؤها.

  كذلك انتفضت فجأة أرض الجزيرة، طرف الزمالك، حي الأثرياء، وذوي الوجاهة، أصحاب الألقاب الرسمية من باشوات وبهوات قديماً، ومحور الحياة الثقافية حديثاً بما يزينها من مقاصد صنعت على مدار الأيام تميز القاهرة، عاصمة الشرق الأوسط قديماً، وقلبه جغرافياً وثقافياً، وملاذه الآمن على مر الأجيال: دار الأوبرا المصرية الحديثة، متحف الفن الحديث ومتحف محمود مختار، المكتبة الموسيقية بالقرب من متحف الحضارة، قصر الفنون، مكتبة القاهرة، وبرج القاهرة الذي ظل سنوات أعجوبة عصره وأوانه. غير قاعات وكليات الفنون والمراكز الثقافية المحلية والأجنبية. كل ذلك، وعلى استحياء بين خُمُر الجيوب، وازدحام التفاصيل. قبعت حديقة الحرية.. أو كما تسمى حديقة الحرية والصداقة في دعة وانزواء، ربما لبقائها سنين ملحقة بمتحف المثال المصري الشهير محمود مختار، والذي كان يوماً جزءاً من مساحتها الشاسعة العامرة بالنباتات النادرة. أو ربما لاستغراقها وقتا غير قصير تحت التطوير أو الصيانة، وكانت خلال هذه المدة مغلقة، ثم بعد افتتاحها صارت كجب وسط أنهار، من سيلتفت إليها إذاً؟!

  في ذلك اليوم، كان الصخب والبهجة يجذبان السائر -ربما دون قصد- إلى حديقة الحرية. كان يقام على أرضها احتفال بيوم اللاجئ، والمدعوون على غير العادة جاؤوا من أقطار وأمصار عديدة، ليستقروا مؤقتاً على أرض مصر. بمحبة ومزيد من البهجة تلتقي هذه الوجوه، وليت الأصوات الناعقة بالعداء للوافدين -خاصة ممن ضاقت بهم الأرض على رحبها- ليت هؤلاء حضروا مهرجان الغرباء الطيبين هذا، وتأملوا هذه الوجوه المشرقة، وكيف أحيت هذه الأرض بوجودها ليعلموا أن لله حكمة في تسيير الحياة، وأن أحداً لن يقتطع شيئاً من رزق أحد، وأن اجتماع ذوي الثقافات المختلفة هذا كفيل بإحياء أي أرض، وكاف ليكسوها بهاء على بهائها.




أمير الشعراء أحمد شوقي:
  كان لأمير الشعراء، بل سلطانهم على مر العصور حضور لا يضاهى في هذا الاحتفال، فتمثاله الجالس في مواجهة دخول الضيوف يوحي بأنه الجد الحكيم جالس كما اعتدنا في بيوت نجوعنا وكفورنا وقرانا؛ يستقبل أحفاده يوم العيد، والذرية الطيبة -عزوته وسنده- يتهللون إذا أطلوا فأبصروا طلعته الوقور. تلهو في عقولهم الأحلام والآمال والتطلعات إلى عيدية زهيدة معفاة من المعاناة. يستقبلونه بالحبور، يتقافزون فوق كتفه، يأمنون بالجلوس في حجره، ويتشبثون بأنفه إذا أرادوا مداعبته؛ أو هموا بالسقوط. أجمل ما مر أمامي في هذا المشهد موقف حارس أمن بسيط، متوسط العمر، جاء يهرول تبعاً للأوامر التي لديه أن لا يترك ما في عهدته من تماثيل العظماء عرضة لعوامل اللهو والسعادة التي تمر، وربما تدمر دون قصد نصباً عاشت سنين تعلم أجيالاً أحدث؛ ما كان عليه القدماء. هرول الرجل وارعوى الأطفال يحاولون الفرار، أحدهم كان مرتبكاً أكثر من اللازم، أوشك أن يسقط، لكن الحارس استجمع مشاعر الأبوة، وكبح ساقيه ليبطئ مطمئناً الصغير، وناداه بودٍ: "بالراحة يا حبيبي.. ما تقلقش". أحياناً يكون علينا أن نغلب القلب على العقل، والأخلاق على الواجب، وإذا كان واضعوا القوانين ألزمونا بشمول نفاذها إلا أنهم أيضاً رسموا بين السطور عبارة لا يراها إلا ذو فطنة تقول: "إن للقوانين روحاً، أفلح من اتخذها نبراساً".


 
 

 


 
الشمال والجنوب يجتمعان أيضاً:
  من أجمل اللقطات التي أخذتها في هذا الحفل عفواً دون قصد، لقطة بسيطة للغاية، وغير احترافية بالمرة؛ لكن فتاتين اجتمعتا معا، كأنهما أقرب لتكونا جسداً واحداً بيدين تلتقطان صوراً بهاتفين محمولين. الجميل في الموضوع أن ملابسهما تخبرك أن واحدة من شمال السودان، والأخرى من جنوبه، وهو إعلان واضح أن ما يفرق ويقسم الدول، ويقصم ظهور أبنائها لم يكن أبداً الشعوب الطيبة، بل المؤامرات التي تحاك من قوى شريرة ترغب في بقاء كلمتنا منقسمة وأرضنا مستباحة وثرواتنا نهباً للمستعمرين الجدد.




أصحاب المهارات، وذوو النعرات:
  مع تصاعد الدعاية الغريبة عن مجتمعنا، والمخالفة لنهج مصر التي ظلت آلاف السنين قبلة للمهاجرين والوافدين، تلك الدعاية التي تحاول تأريق اللاجئين في مصر بأكاذيب وشائعات توحي أن المجتمع قلق منهم، وربما يرفضهم، وهي أباطيل يدحضها ما يلقاه الأشقاء والأصدقاء في شوارعنا وأحيائنا من ترحيب، بل وإعجاب بما يقدمونه من ثراء لأسواقنا ومحترفاتنا، في البداية كان اللقاء محاولة لمساعدتهم على غربتهم التي جربها معظمنا ويعرف همها. كنت تجد أبا فلان صاحب المطعم الشعبي المصري يدعوك لتجرب شاورمة أبي علان الذي فتح غير بعيد عنه، ومع الوقت أثبت هؤلاء وأولئك وجودهم وأصبحنا نقصد بشغف مطاعمهم لنستمتع بأطعمتهم اللذيذة: الشاورمة السوري، والمندي اليمني والملوخية على الطريقة السودانية، والمشاوي العراقية. في حديقة الحرية أيضاً وجدت فرقة دبكة شامية وفرق فنون شعبية من إثيوبيا والسودان يرقص على أنغامها جمهور من جنسيات عديدة وجدَت طاقة نور، ونافذة تعبير في الفنون التي يقدمونها ويسهمون بها في المجتمع الذي يعيشون فيه. ثم أيضاً أطفال.. أطفال كثيرون لم تمكنهم ظروف الحرب والصراعات من الخلود إلى وسادات كان آباؤهم أعدوها لقدومهم يوماً.. هم الآن أولى بالرعاية، فهؤلاء سيحملون على عواتقهم يوماً مسؤولية إعادة بناء أوطانهم من جديد، في يوم نرجو من الله أن نراه قريباً.
أحمد صلاح الدين طه



 







 

avatar

الأعضاء المٌسجلون فقط يٌمكنهم إضافة تعليقات
[ التسجيل | دخول ]
 

لنشر مقالك هنا.. اضغط اللنك 


إذا لم تكن عضواً في ديدالوم سجل الآن، اضغط هناااا

 
    أضف خبرًا فنيًا         أكتب مقالا على ديدالوم