وظائف خالية

فضفضة مصورين.. ليس إلا

مهرجان علي الحجار
Total online: 1
Guests: 1
Users: 0
بين صفوح نعماني ومحمد بيومي.. لعنة البقاء في الظل

فضفضة مصورين.. ليس إلا
 
 

  بعد تخرجي بوقت قصير، كنت في مهمة عمل مع مخرج (معروف جداً وقتها).
  فوق أحد البيوت الريفية أشار لي إلى الجهات الأربع (تقريباً) وقال: "خذ لي التكوين دة ، والتكوين دة، والتكوين دة، والتكوين دة".
  قال كلماته تلك وانصرف، كأنه أدى ما عليه.
  نظرت أنا في كل اتجاه أشار إليه؛ فوجدت عشرات، وربما مئات التكوينات المحتملة: مئذنة مسجد القرية مع الأشجار، والريف بتفاصيله الغنية، حيوانات، ومزارع، وطرق، أجران قمح وأبراج حمام. بشر هنا وهناك، يسيرون.. يعملون.. يستريحون.. نار تلتهم بعض القش على رؤوس الغيطان، وأشياء أخرى عديدة يمكن أن تصنع احتمالاتٍ لانهائية من التكوينات.. تحدث عنها المخرج -الذي كنت أراه عظيماً- على أنها فقط لا تتعدى أربع لقطات محتملة ليس إلا.. وكانت تلك البداية.
  كانت تلك بداية فهمي لأن المسألة ليست بالأسماء الرنانة.
  وبداية إدراكي أن العمل في السوق ليس تماماً كما يدرس في الجامعة.
  وبداية استيعابي أن عليَّ -كثيراً- تأدية العمل بوجهة نظري، وبتصوري وفي حدود قدراتي، وأن أتظاهر أنني أنفذ أوامر المخرج، رب العمل كما يقولون، وكما يعتقد العامة أن للعمل ربٌ/مخرج يحميه.. وسيتظاهر المخرج أنني (عملت اللازم)، وأنه راض عن أدائي.. تماماً كما حدث في مشهد من فيلم (أصحاب ولا بزنس).. هل تذكرون المخرجة المتحمسة، وهي توجه المصور: "هتفتح من كذا، ثم تأخذ كذا، وتذهب إلى كذا"، وهكذا..
  يهز المصور رأسه متواطئاً.. يبدو مقتنعاً بكل ما تقول، وراضخاً لوجهة نظرها -العبقرية- تماماً. ثم يحدث القطع -في الفيلم- إلى اللقطة التي يصورها الرجل، وهي بكل المقاييس لا علاقة لها بكل ما قالته المخرجة..
  الواقع شديد الشبه بهذا المشهد من الفيلم، يومياً نفعل ذلك، ونتواطأ على أن يبدو الأمر خلاف ما يحدث.. لكن طالما الجميع راضٍ، والسبوبة ماشية.. تمام.
  في تلك الأيام، عندما طلب أحد زملاء دفعتي في الكلية وفي التعيين، من أحد المخرجين أن يرسم له (كروكي) للقطات(ستوري بورد).. ما كان من المخرج الشاب إلا أن دارى عدم معرفته بما يتحدث عنه الزميل، بأن راح يسخر منه، وراح يحكي للزملاء الآخرين عن الشيء العجيب الذي يتحدث عنه الزميل، ويردد:"حد يقول كدة" نفس العبارة التي تسمعها من كل سائق يكاد يصدمك بسيارته، عندما تشير له أن الإشارة مقفولة؛ يضرب كفاً بكف، ويقول لك: "حد يقول كدة"، وكأن لا أحد يمكن أن يقول شيئاً صحيحاً، وكسر الإشارات هو المعقول الوحيد في شارع مزدحم.
  هناك مساحة واضحة من عدم الفهم، وعدم التفاهم في سوق العمل التليفزيوني، تسبب ارتباكاً ما لكل مقدم جديد على العمل، وأحياناً عدم تقدير دور الآخرين.. لم يعد المصور يفكر لحظة في تنفيذ وجهة نظر المخرج، والمخرج في المقابل يريد أن يثبت وجوده، خاصة شباب المخرجين، الذين يرون العمل (بتاعهم)، ولا يكترثون عادة بفكرة أن العمل التليفزيوني عمل جماعي، وهم جزءٌ منه لا أرباب ولا آلهة في الموضوع.. فقط كل يؤدي عمله، وعليه أن ينجزه في حدوده، وبطريقته، وبالتكامل مع الآخرين.
  لكن هل ذلك هو الحال في جميع مجالات العمل التليفزيوني؟
  في الواقع؛ لا.
  عندما تتعامل مع المحترفين في مجال الدراما، ومباريات الكرة، والمنوعات، والوثائقيات؛ تجد الموضوع مختلفاً شكلاً ومضموناً.. المصور في هذه المجالات يقدر المخرج تقديراً لا مثيل له.. أنظر للزملاء القادمين من العمل في هذه المجالات، وحديثهم دائماً عن عبقرية هذا المخرج، أو حرفية آخر، و "مَعْلَـمَة" ثالث. كما أستمع إلى المخرجين في هذه المجالات أيضاً، وأفاجأ أنهم يمكن أن يرفضوا عملاً "من بابه" لأن منتجاً رفض أن يتعاقد مع مصور أو مصورين معينين.. وتسمع حديثه عن هذا المصور أو مدير الإضاءة فتجده في حكم المتيم بعملهم.
 
 
  إذاً، أين تكمن المشكلة؟
  أعتقد من واقع خبرتي أن سوقنا المحلي لا يضع الوظائف في محلها، يعني هناك وظائف صنعها التليفزيون الرسمي المصري، وكثير من المحطات العربية، هذه الوظائف كانت مبنية على مفاهيم، وقواعد، وتخصصات السينما التي سار التليفزيون في إثرها، لكن التليفزيون تطور تكنولوجياً، وتفرعت مجالاته فنوناً عديدة تخدم العمل اليومي، وساعات البث، والإنتاج الطويلة التي تغطي احتياجات الجمهور الضخم.. مع هذا التطور، لازالت الوظائف التي اعتمدتها الجهات الرسمية في الدولة (التنظيم والإدارة مثلاً) مطبقة كما هي، ومؤسس عليها بنية بيروقراطية ضخمة من موظفين، وإدارات، وإدارات عامة، ومركزية، أصبح من الصعب تفكيكها، بل إن محاولات تطويرها مع الحفاظ على هيكلها الخارجي راسخاً أدي إلى تداخل وتشابك، وتصادم أحياناً؛ انتهى لما نحن عليه.. أياً كان تخصصك.. مصور، مخرج، أو غير ذلك.. إما أن "تكبر دماغك"، وتتواطأ مثلي، أو تدخل في صراع يومي لإثبات ما لك، وما على الآخرين، مثلما أرى حولي كل يوم.. 
أحمد صلاح الدين طه
الخميس 18-1-2020




 لا تنس الاشتراك على قناتنا على يوتيوب وصفحتنا على فيس بوك لمتابعة الأحداث المستقبلية. من هناااااا





 

avatar

الأعضاء المٌسجلون فقط يٌمكنهم إضافة تعليقات
[ التسجيل | دخول ]
 

لنشر مقالك هنا.. اضغط اللنك 


إذا لم تكن عضواً في ديدالوم سجل الآن، اضغط هناااا

 
    أضف خبرًا فنيًا         أكتب مقالا على ديدالوم